ثلاث محطات في مزرعة حيوان الحرب السودانية
معتصم أقرع
رمية النرد الثالثة: كانت إستراتيجية الحلف الجنجويدى منذ البداية هي عرض الحرب السودانية كصراع بين جيش إخواني وطرف آخر يتمتع برضي قوي مدنية/ديمقراطية ويتفق معها علي ضرورة الحكم المدني. وكان الهدف الواضح من الإستراتيجية هو عزل الجيش السوداني في الداخل والخارج حتي يتثنى للحلف الجنجويدى تحقيق أحلامه الرطبة.
مع مرور الأيام بدات قوة هكذا دفع دعائي في التلاشي بسبب تزايد صعوبة إقناع الجمهور السوداني بهذا الاختزال إذ أن إجتياح الجنجويد للقرى والمناطق التي لا يوجد فيها جيش واستباحته لدم المواطن وماله وجسده يبدو كحرب ضد المواطن السوداني وليس صراع بين أخوان ولا-اخوان خاصة وأن همجية الجنجويد شردت ملايين السودانيين إلي منافي المسغبة والمعاناة في داخل القطر وخارجه.
وايضا سقط القناع الزائف عن السردية مع تدمير الجنجويد للتراث السوداني ونهب المتاحف وحرق المكتبات وتدمير دور العلم وغيرها من المنافع العامة ما أشار إلي أن الجنجويد لا يستبيحون المواطن العادي فقط بل ييستهدفون البنية التحتية المدنية للدولة بل ويسعون إلي محو هوية السودان وتاريخه وثقافته. وها هم يبيعون أهم واقدم الأثار للحضارة السودانية في أسواق العالم البخسة. وكل هذه الأدلة تشير إلي أن هذه ليست حربا عبثية بين طرفي نزاع كلاهما علي ضلال وإنما هي إستهداف للمواطن السوداني ودولته وثقافته وكينونته التاريخية.
كما أن الحقيقة الماثلة في أن المواطن لا يهرب من منطقة يسيطر عليها الجيش ولكن سكان المدن والقري يهربون زرافاتا من أي منطقة يقترب منها الجنجويد، هذه الحقيقة قد صبت ماء باردا في تدليسية ألا فرق بين جيش وجنجويد وأنهت وجودها بإستثناء عقليات النصوصيين – وهم قوم يبنون مواقفهم بناء علي عقائد سياسية مسبقة ونصوص مروا بها يوما ما. ولا يسمح النصوصيون للواقع المادي المتعين أن يحرمهم من دفء اليقين الذي تمنحه النصوص حسب تفسيرهم لها. ولا يتفكرون في أن الديالكتيك حمال أوجه، يرقد بين دفتي الكتاب لا ينطق ولكن ينطق به الرجال والنساء أو كما قال فاروق.
ولا ينتبه النصوصيون أن قولهم بعدم وجود فرق بين طرفي النزاع لا يتسق مع إجماع الشعب الذي يعبر عنه حين يهرب من رائحة الجنجويد قبل وصولهم ويستجير بمناطق سيطرة الجيش.
ومن المؤسف ان موقف النصوصين لسان حاله أن الشعب السوداني عبارة عن قطيع من البهائم لا يدرك مصالحه ولا يعي حكمة ألا فرق بين الجنجويد والجيش. وهذه البهيمية تقوده إلي إرتكاب خطأ الخروج من قراه عند قدوم الجنجويد والإستجارة في المناطق الواقعة تحت سيطرة الجيش.
وفي الخارج أيضا تضعضع تاثير السردية أعلاه مع تغطية الإعلام الغربي ومنظمات حقوق الإنسان لدور التسليح والتمويل الخارجي وجرائم الحرب التي يرتكبها الجنجويد من إبادة جماعية وعنف جنسي واسع النطاق. كما أن الإدارة الأمريكية قد نددت مرارا وتكرارا بالجنجويد علي لسان أهم مراكز القرار الأمريكي بما في ذلك الخارجية والكونغرس والصحافة الموالية لخط الدولة.
مع تلاشي بنج السردية التدليسية خفت عزلة الجيش السوداني من المواطن في الداخل وخفت في الخارج ما دعا الحلف الجنجويدى لإخراج آخر ما في جعبته من حركات.
أتت رمية النرد الأخيرة من الحلف الجنجويدي في محاولة تبدو وكانها “تكبير للرخصة” ولكنها يائسة. تنطوي الرمية علي تحذير العالم من أن السودان سيتحول إلي مرتع للإرهاب من قبل جماعات إسلامية مثل بوكو حرام والشباب وما شابه ما يقود إلي ظهور حزام إرهاب يمتد من الساحل (السهل) الأفريقي من المحيط الأطلسي في غرب القارة إلي المحيط الهندي الصومالي في شرقها.
وهذا الحزام الإرهابي الموبوء بالإسلاميين الأشرار سيضر بمصالح الدول المتحضرة ويعرقل التجارة العالمية ويهدد الدول المعتدلة في المنطقة ويزعزع أمن الشعوب الطيبة.
ولا يخفي علي أحد أن هدف هذا التحديث للسردية هو التمهيد لتكالب الأمم المعادية علي السودان باسم محاربة الإرهاب الإسلامي العابر للحدود. ويحلم هذا التحديث بان يوفر مبرر نظري لتحالف مضاد للسودان من دول جوار ورعاة عالميين وشوقر دادي اقليمي.
وبالطبع فان القوي الأقليمية والعالمية ودول الجوار لا تحتاج إلي تنوير جيوسياسي أمني بواحد جنيه لذلك فان هدف تحديث السردية ليس إقناع أي دولة تعرف أضعاف ما يعرف ميديوكرات الحلف الجنجويدى وإنما توفير غطاء إعلامي-سياسي للعبث بالشعب السوداني بيد ثقيلة.
لكن من أغرب جوانب السردية الجديدة هي أنها لا تسال نفسها عن وقع خطابها علي مواطن سوداني في ود النورة أو الجنينة أو الفاشر أو في منافي الفقر والخسارة – هذا المواطن الذي يعاني السلب والإغتصاب والقتل علي يد الجنجويد، هنا الآن، عمليا، ما الذي يجعله يرتجف من عنف محتمل من جماعات إسلامية ولم يحدث ويظل في علم الغيب وامنيات حلف جنجويدي حالم بالاطمئنان في حضن خارج إستعماري يبرره حربهما المشتركة ضد الإرهاب الإسلامي؟
ما الذي يعطي إرهاب إسلامي محتمل لم يحدث بعد أولوية علي ما يعانيه هذا المواطن عمليا الآن علي يد الجنجويد كما وثقت منظمات حقوق الأنسان العالمية والصحافة الدولية؟
رمية النرد الثانية: شعر الحلف الجنجويدي بعدم قدرته علي تحقيق نصر عسكري حاسم، ووضح له إنسداد الأفق السياسي أمامه بصورة نهائية بمعني أنه حتي لو أنتصر عسكريا ودك كل مدن السودان دكا فانه لن يستطيع أن يحكم ولا لمدة أسبوع واحد حتي لو تم ضرب السودان بالنموي واستسلم الجيش للحلف الجنجويدي علي الطريقة اليابانية.
أدرك الحلف الجنجويدي إنسداد الأفق السياسي الذي يعني أن أي إنتصار عسكري هو نصر بيروسي يحمل هزيمته السياسية في أحشاء تفوق بندقه المستورد والمتقدم. حينها جرب الحلف الإبتزاز بالتهديد بإنتاج نموذج ليبي من دولتين أحدهما جنجويدية في دارفور.
ولكن فات علي المفكرين الإستراتيجيين أن الجنجويد لا يمثلون دارفور ولا كردفان وفات عليهم رفض قبائل دارفور للقبائل التي استدفتها مليشيات الجنجويد والمذابح الجماعية والمتكررة التي نفذها الجنجويد في ديارهم منذ أيام عملهم كحرس لنظام البشير ثم واصلوا فيها في دار مسىاليت وغيرها مع إندلاع الحرب.
ولكن كراهية القبائل الأفريقية للجنجويد لم تكن وحدها كافية لسد الطريق علي إبتزاز الحلف الجنجويدي بالتهديد بفصل دارفور. وهنا برز الدور التاريخي الذي لعبه جبريل إبراهيم ومني أركو مناوي بالإنحياز إلي الدولة السودانية و القتال مع الجيش السوداني لدحر الغزو الجنجويدى.
ويمكن تفسير هذه الإنتقال جزئيا بان صراع حركتي جبريل ومني مع الحكومات السودانية كان حول السلطة وكيفية إدارة الدولة السودانية وهذا يختلف جوهريا عن أهداف الحلف الجنجويدى الهادف إلي تدمير الدولة وليس إعادة توزيع الموارد بين مجموعاتها.
غض النظر عن إتفاق أو إختلاف مع تقديراتهما، إلا أن ما لا شك فيه أن موقف الدكتور جبريل والسيد مني هو موقف تاريخي بكل المقاييس وسيدخل في كتاب التاريخ كأحد أهم عوامل مستقبل الدولة السودانية وتطديد معالم الواقع الذي سيبرز بعد أن تضع الحرب أوزارها كيفما تم ذلك.
رمية النرد الأولي: مع بداية الحرب السودانية سعي الحلف الجنجويدي إلي خلق صورة إعلامية-سياسية مفادها أن الإستقطاب الداخلي يتم بين إسلاميين(إرهابيين) يدعمون الجيش، من ناحية، وبين معسكر مدني، ديمقراطي، علماني، عصري يظهر الحياد والسلمية ويستبطن التحالف مع الجنجويد لدحر جيش الظلاميين الإسلاميين والدكتاتوريين لاعقي بوت العسكر، من ناحية أخري.
وحققت هذه السردية نجاحا داخليا معتبرا لفترة ما ولكنها أيضا إنهارت في النهاية مع إنتشار عنف الجنجويد المروع.
ولم يكن عنف الجنجويد كافيا لوحده لكشف عورة السردية. إذ لعبت شخصيات حداثية علمانية دورا تاريخيا مهما برفضها لهكذا إختزال. واعلنت أن سيادة الدولة والوقوف مع الشعب ضد العسف الجنجويدي قضايا لا مساومة فيها. وان العمالة وحشد المليشيات الإجرامية ليست بديلا مناسبا لحل مشاكل الدولة السودانية ووضع حد لسطوة الإسلاميين إذ أن مدنية-ديمقراطية تاتي علي سنابك الغزاة مجرد تناقض مستحيل لا يحدث إلا في روايات شاذة الأفق أو في خيال دبيب في فمه كبسة.
من أهم رموز هذه المجموعة المضادة للانبطاح، التي تضم دهريين ومسلمين علمانيين، الروائي العالمي بركة ساكن، وأستاذ اللغويات العلامة عشاري أحمد محمود وشيخ النوبة السودانوي الصلب محمد جلال هاشم وغيرهم.
لم تنجح رميتا النرد الأولي والثانية وكانت النتيجة عكسية بالمزيد من الكراهية والاحتقار للتدليس. ولا أدري ماذا سيكون مصير الرمية الثالثة.
مشهد أخير: بما إني إنسان متفائل ولا أحب النكد فلا بد أن أنتهي بخاتمة أدبية خفيفة ولطيفة. في رواية مزرعة الحيوان لجورج أورويل تمردت حيوانات المزرعة وقادت ثورة ضد السيد جونز – مالك المزرعة المدمن والعنيف الذي سام الحيوانات العذاب والإساءة والقهر.
بعد الإطاحة بالسيد جونز تظهر مجموعة حاكمة جديدة من الحيوانات بقيادة الخنزيرين نابليون وماجور. وبدلا من الوفاء لقيم ومطالب ثورة حيوانات المزرعة تتحول المجموعة الحاكمة إلي سيد جديد لا يقل جشعا وأنانية عن المخلوع مستر جونز.
وتستأثر المجموعة الحاكمة الجديدة بالخيرات لنفسها وتحرم بقية الحيوانات ولا تشركها لا في السلطة ولا في الحقوق والامتيازات الاقتصادية. وكل ما تذمرت الحيوانات من بجاحة الطغمة مستجدة النعمة عقدت خنازير الطغمة مخاطبة وهددت الحيوانات بان إحتجاجاتها ستمهد الطريق لعودة المستر جونز الذي أطاحت به الثورة.
ولم يكن للخنازير الحاكمة أي برنامج ولا إنجاز ففبركت مشروعية سلبية تتلخص في “نحن أفضل لكم من مستر جونز أيها الحيوانات وانكم إن لم تصطفوا خلفنا سيعود السيد جونز للسلطة ليمارس الأرهاب ضدكم مرة أخري.”
وقوع الحافر علي الحافر فهي مزرعة حيوان.