عن مجلة “أتر” في زمن الحرب على الشبكة بولو فاليري في مركز لإيواء النازحين بمدينة كوستي (1-2)
عبد الله علي إبراهيم
قيل أن الحقيقة هي ضحية الحرب الباكرة. فتصور محنة الحقيقة في مثل الحرب في السودان التي تدور في الوسائط الاجتماعية بأكثر مما تدور في ميدان القتال. ولعل هذا ما يوجب الترحيب بمجلة “أتر” (أثر) الأسبوعية على النت التي تقارب نهاية سنتها الثانية من الصدور. ويقوم عليها عارف الصاوي من الصحفيين المجيدين المؤرقين بمهنية الصحافة مع نخبة من شباب الصحفيين ممن عرفوا بالرصانة وعمق التحري. وافترقت “أتر” عن غيرها من صحف تصدر على الإنترنت بأنها استنفرت مراسلين لها في مدن سودانية لم يجعلها شاهد عيان فيما تروي عن الحرب وحسب، بل أعطت ضحاياها صوتاً عن أنفسهم وما يدور حولها. وجاءت بهذا بما لم تحسنه الصحيفة السودانية حتى قبل الحرب ولزمن طويل. فكانت تخلصت من شبكة المراسلين بالمرة وانتهت إلى قصص بأقلام محرريها وتكاثرت فيها كتابة العمود مما جعل من الصحيفة صالوناً صفوياً، أو قبواً دارت فيه كثيران الساقية حول سياستها المتباغضة وانقطعت عن كل سياسة غيرها. وجاءت “أتر” بما وصفنا به بما نادي به جيمس هنتر، مؤلف “الديمقراطية والتضامن”، بإنه لمن أهمية بمكان أن نكتشف الإنسان من تحت تجريدات سياستنا الرمزية المحتقنة.
يقول مثل سوداني “من يعرف عيشة في سوق الغزل” وهو عن هوان المرء بين الناس. ولكن عرفتنا “أتر” بسيدة اسمها صفاء في سوق “ستات الشاي” بمدينة مروي إحدى مدن الولاية الشمالية التي أوت نازحين من الخرطوم ومدني. وكان السوق ضيق النطاق حتى توافد النازحون وعملت النساء منهم في بيع الشاي على طرقات المدينة. وقال الصحفي حسان الناصر إنهن غيرن وجه المدينة ورائحتها: “فتشم رائحة الطين الذي ينتج من رشهن الأرض بالماء في مواقع عملهن ورائحة البخور العطر أيضاً (من مباخرهن)”. وكانت صفاء نزحت من الخرطوم إلى مدينة مدني عاصمة ولاية الجزيرة. ووصفت حال خروجهم بقولها “خرجنا منها يد وراء ويد قدام” أي مجردين من كل شيء. وقالت “كانت الحياة في مدني رخية وطيبة” وعلى مرمى حجر من الخرطوم التي سيعودون لها لامحالة. ثم احتل الدعم السريع مدني فتركوها. وفكرت في النزوح إلى مصر واللجوء بها. ولكن حال ضيق يدها عن ذلك. وفكرت في اللجوء إلى جوبا عاصمة جنوب السودان بتزكية من صديقات لها هناك شجعنها بأن سبل الرزق متاحة فيها ببيع الملبوسات والأطعمة وصالونات التجميل. ولكنها اختارت أن تأتي لمروي في صحبة أسرة تعرفت عليها في مدني. وقالت عن مروي “أحوالنا مستقرة وطيبة” فيها إلا أن يأتينا الدعم السريع ثالثاً. ولو جاؤوا هذه المرة، في قولها، “إلا نقع البحر”.
كتب ساري نقد ومحمد حسين ووفاء عبد العظيم وحسان الناصر 4 قصص صحفية عن “بين كيد الطبيعة وكيد الحرب” عن الكوارث التي نجمت عن خريف 2024 غير المسبوق على المناطق التي تحت سيطرة الحكومة وعلى النازحين إليها من مناطق احتلها الدعم السريع. فراح ضحيتها 29 وفاة و125 إصابة وتأثر منها 167 ألف حطمت بيوتهم وغرقت أعمالهم ونزح 30 ألف من جرائها. فأخرجت من الخدمة 3 من محطات توليد الكهرباء في بورتسودان، العاصمة الإدارية المؤقتة، وغمرت المياه خيام النازحين في كسلا (253 ألف) والقضارف (755 ألف) وقطعت طريق بورتسودان-عطبرة الذي هو شريان النقل التجاري لأرجاء السودان.
وليس ما كتبه ساري ووفاء ومحمد والناصر من نوع “ومأساتاه” التي تطفح في خبر الحرب الوسائط. فهم ممن يصفه الأعاجم بأن كتفيه، متى تلاطمت الأمواج، يظلان فوق الماء إذا أردناها نكتة بلاغية. فلم تقع هذه الكوارث بالحرب، بل سبقت بأسبابها الحرب. ففي وولاية نهر النيل والشمالية زرع بعض الناس زرعهم في مصب الخيران الخصبة التي من صنع الطبيعة لتصريف مياه السيول بمنأى عن الناس. والأشد خطراً مع ذلك هو انسداد هذه الخيران جراء عمليات التعدين العشوائي، بعد أن صار الذهب المنتج القومي الأول، منافذ تصريف السيول. فالخيران هي المواضع المثلي للتنقيب عن الذهب لأن عروقه تظهر على جنباتها. وتراكمت بالتنقيب أكوام التراب، “الكرتة” في لغتهم، من جراء الحفر للذهب. واعترضت مسيل الماء الطبيعي فاضطر للتفرق على دور الناس ومزارعهم وإغراقها. وليس هذا بنهاية الوجع. فهذا الكرتة مشبعة بكيمائيات الزيبق والساينايد التي يستخلص بها المنقبون الذهب من التراب والحجر من حوله. ويحمل السيل هذا التلوث إلى الناس وحيوانهم. ويحز في النفس أن الدولة لم تستجب لخروج الناس الطويل ضد هذا النشاط الاقتصادي المدمر للبيئة. فاشتكوا من نفوق بهائمهم من جرائه، بل تشوه الأجنة في بطون الحمل، وزيادة حالات الإجهاض. ولم تحرك الدولة ساكناً.
وخلصت القصة إلى أن التخطيط الحضري وغير الحضري لم يعتبر مسارات الخيران في خطط الإسكان. فوزعت الحكومة أراض في مناطق مهددة بالسيول بلا وازع. ولم تستنر بمثل عبارة نبيهة أخذها الصحفيان من متأثر بالفيضان: “الموية ياها الموية كان صبت قليل أو كثير والخيران أصلها ما بتودر دربها”. وأضاعت الخيران دربها بفعل فاعل.
ونواصل