رأي
انقلاب 19 يوليو 1971: من دفتر الأحوال إلى رحاب التاريخ
عبد الله علي إبراهيم
تمر اليوم الذكرى 53 لانقلاب 19 يوليو 1971. وأنشر كلمة من كتابي “انقلاب 19 يوليو 1971: من يومية التحري إلى رحاب التاريخ. والأصل فيه مقالة في الإنجليزية قدمتها كمحاضرة في جامعة متشغان-آن آربر في 1995 ونشرتها في مجلة أكاديمية في 1996. وصدرت في كتاب عن دار عزة للنشر.
ظل انقلاب 19 يوليو 1971 أسير يومية التحري الجنائي والقضائي منذ اندحاره بعد ثلاثة أيام من قيامه. فقد ذهبت المحاكم الظالمة، التي انعقدت بعد الفشل، بصفوة الجيل اليساري لآخر عقد الأربعينات وعقد الخمسينات. وبقي الانقلاب رهينة مساءلة انحصرت بالكلية في تحقيق عما إذا ما كان الحزب الشيوعي هو الذي أوعز بالانقلاب. ولم تبرح تلك الحركة الشقية يومية التحري والملاحقة بسؤال “من الجاني؟” حتى بعد دفع هذا الثمن الباهظ.
لم نبارح في نظرنا لانقلاب 19 يوليو بعد محطة المباحث عمن قام بالانقلاب إلى البحث التاريخي الذي مداره لماذا وكيف وقع الانقلاب في زمانه ومكانه. والبحث التاريخي يشمل التفتيش عن فاعل الانقلاب بالطبع، ولكنه لا يقتصر عليه، بل يؤطر تحرياته عنه في سياقات اقتصادية واجتماعية وثقافية نفعها أعم لوعينا بالماضي. ولن نبلغ هذا الوعي بالماضي بنهج المتحري لأنه نهج يفترض سيطرة المحرضين على الشيء والقائمين به على فعلهم في التاريخ، أي أنه كان بوسعهم أن يكفوا عن الفعل متى أجروا حساب الربح والخسارة ووجدوها بائظة. ويقوم نهج البحث التاريخي من الجهة الأخرى على أن للسياق الثقافي الاجتماعي الذي تقع فيه الحادثات جبراً على القائمين بها وستقع المصائب أحياناً غصباً عنهم حتى لو أحسنوا التحسب للمستقبل.
قال مؤرخ فطن إن التاريخ لا يجعل منا شطار-حرفاء متي تكررت علينا حادثة من حادثاته. خلافاً لذلك فالتاريخ، إن أعاد نفسه، أعاننا على أن نتحلى بالحكمة فنكون بهذا التكرار أحكم في مرتنا هذه عن مرتنا الأولى. فالمنهج التاريخي يطلعنا على منزلة الإرادة والجبر في تنزل الواقعة التاريخية بينما يخيل لمنهج يومية التحري أننا سنكون أشطر في مرتنا التالية عن المرة الأولى. ولا يتنزل هذا التذاكي أو التشاطر على التاريخ، إن تنزل، إلا على حساب الجبر فيه. فالمباحثي-المتحري يُعلى من إرادة البشر في تنزيل التاريخ بتركيزه على فعل الفرد منهم. فإن أساء الفرد منا تعلم من خطئه أن يَجَوَّد صناعته للتاريخ في المرة القادمة. ويقوم هذا التشاطر على التاريخ على عقيدة في التربية الأخلاقية. فالمباحثي معني بتصويب التاريخ بتحميل الفرد أو الأفراد وزر جنحة تاريخية ما. فمتي استبان الفرد، أو الأفراد، خطأهم كانوا هم، أو من يليهم، أدق خلقاً في تفادي الانزلاق في مهاوي جنح التاريخ.
انصب منهج يومية التحري في تقويم انقلاب 19 يوليو على مسئولية سكرتيره العام، الأستاذ عبد الخالق محجوب، في تدبيره. ويكتسب هذا السؤال أهمية خاصة لأن الإجابة عليه قد تقدح في مصداقية (وهي باب في الأخلاق) هذا المفكر الذي كتب الصفحات الغراء في فساد خطة الانقلاب في العمل السياسي، بل ورسم كل تكتيكاته السياسية حيال انقلاب مايو 1969 اليساري بحسبانه فتنة برجوازية صغيرة نائمة استيقظت.
وفي 1986، بعد 15 عاماً من موت الانقلاب المعجل، ظل الشاعر صلاح أحمد إبراهيم يسوق الدليل والبرهان على أن عبد الخالق هو الذي أوعز بالانقلاب. فمن رأي صلاح أن عبد الخالق لم يحرض على الانقلاب صراحة بل أوعز للضباط الشيوعيين ذلك بأسلوبه الإيحائي المعروف الذي “لا يملك المٌخَاطب معه بخاصة إذا كان شيوعياً ملتزماً إلا أن يستنبط منه ما يوقن أن واجبه الثوري الذي لا معدي من تنفيذه بإقبال شديد”. وهو أسلوب يوفر للواعز حرية التنصل والإنكار متى هبت الرياح المضادة. وهو ما حدث في نظر صلاح حين أنكر عبد الخالق خلال محاكمته أنه خطط لحركة 19 يوليو أو أوعز بها.
واستفحلت هذه المساءلة الجنائية لأن الحزب الشيوعي لم يتأخر في بيان ملابسات الانقلاب فحسب، بل احتكرت لجنته المركزية حق تقويمها دون الشيوعيين الآخرين وحلفائهم أيضاً. وكنت من بين من قالوا في كتيب صدر في السر عام 1977 إن الحكمة من تمييز اللجنة المركزية في تقويم الانقلاب ينبغي ألا تصبح سبباً لمصادرة اجتهادات أخرى تصدر عن نظر علمي ومسئولية. واستغرق اللجنة المركزية 25 عاماً لتصدر تقويمها في 1996. وهذا وقت كاف لتفرخ أسئلة التلاوم التي لا مهرب منها بوجه المحنة. وبذلك غلب منهج يومية التحري في النظر إلى انقلاب 19 يوليو.
ولعل أسطع دلائل تمكن منهج التحري القضائي الجنائي هو صدور مكتوبين شيوعيين في منتصف العقد التاسع من القرن الماضي، أي بعد نحو عقدين ونصف من وقوع انقلاب 19 يوليو، لم يغادرا محطة التحقيق عمن أمر بالانقلاب. فقد صدرت عن لجنة الحزب المركزية في 1996 الوثيقة المنتظرة لوضع النقط على حروف الانقلاب (وسنسميه التقويم 1996 من هنا ورائح للتخفيف). ولم تزد عن المراوحة عند كلمة الحزب الأثيرة أن 19 يوليو تهمة لا ننكرها وشرف لا ندعيه. وهي كلمة صدرت خلال لفح أيام يوليو 1971 العصيبة أراد الحزب بغموضها البلاغي أن “يثبت ويأكل ناره” كما نقول. فالانقلاب في اعتقاد الحزب تهمة صوبها خصومه نحوه وهي لم تثبت (ولن تثبت) ولن ينكرها مع ذلك طلباً لرباطة الجأش في المحنة. وهي شرف وطني لن يدعيه لأنه لم يَثبت أنها أوعز بها ولن يثبت.
قال تقرير 1996 في تقويم حركة 19 يوليو بلفظة قاطعة إن قرار التحضير للانقلاب وتنفيذه لم يتخذه عبد الخالق، أو الأمانة العامة للحزب، أو مكتبه السياسي ، أو لجنته المركزية. ذلك شرف لا يدعيه الحزب الشيوعي. ولكن التهمة التي لم يدفعها الشيوعيون عن أنفسهم هي أنهم علموا بالانقلاب بعد أن أطلعهم العسكريون الحزبيون على خطتهم فتدارسها المكتب السياسي وعلق عليها وطلب منهم أن يراجعوا أنفسهم على ضوء ملاحظاته تمهيداً لطرح الأمر برمته على اللجنة المركزية. ولكن سبق السيف العذل كما سنرى. وهكذا لم ينفد بالتقادم عمر عبارة الشرف والتهمة البليغة. وستدخل قاموس العبارات السودانية كعبارة جرئية سديدة في حسن التخلص بغير خسارة.
أما المكتوب الآخر الذي سار على سنة المباحث فقد صدر في 1998 بقلم الرائد محمد محجوب عثمان، عضو مجلس انقلاب 19 يوليو وشقيق الأستاذ عبد الخالق محجوب السكرتير العام للحزب الشيوعي (1926-1971)، بعنوان الجيش والسياسة في السودان: دراسة في حركة 19 يوليو 1971. وهو بلا جدال تعقيب ناقد جداً للتقويم 1996. ومن رأى محمد محجوب إن الحزب متورط في انقلاب 19 يوليو وأن تنصله عن الإيعاز به غير لائق. فإن لم يقم الحزب بالانقلاب إلا أنه شرع فيه بطول مدرسته لفكرة التحرك مع العسكريين. فقد قبل الحزب في اجتماع المكتب السياسي (13-7-1971) من جماع تصور العسكريين الشيوعيين لحل الأزمة السياسية بفكرة قيام “حركة تصحيحية” بواسطة أولئك الضباط الشيوعيين تخضع لتقديرات اللجنة المركزية. ورأي محمد محجوب في هذا قبولاً من الحزب بما قام به هاشم وحركته التصحيحية. وفي هذا السياق طلب الحزب من العسكريين الإجابة على بعض الأسئلة تهدف كلها إلى التأكد من نجاح الخطوة باعتبار دقيق للأوضاع في البلد ومواقع المتربصين بالداخل والخارج بالحركة الثورية. وفي ذلك السياق طلب الحزب من العسكريين تنويراً عن أوضاع بعض الأسلحة الموالية للمشير جعفر نميري والوضع في الجنوب وما قد يأتي من تدخل من حلف مصر وليبيا والسودان الذي كانت الدعوة له على أشدها. وكانت معارضة الشيوعيين لقيام هذا الحلف هي من أهم نقاط النزاع بينهم وبين حكومة مايو. ومن رأى محجوب أن هذه المواقف والأسئلة هي “شروع في الانقلاب”.
ونواصل