رأي

الدور الآن على عبدالعزيز بركة ساكن

د. ياسر يوسف إبراهيم

د عبدالحي يوسف، الهندي عزالدين، وعبدالعزيز بركة ساكن..
ما الذي يجمع بين هذه الشخصيات؟
نعم جميعهم ناشطون في العمل العام، كل في مجاله، والقاسم المشترك الذي يجمعهم هو تعرضهم لحملات إعلامية على وسائل التواصل الإجتماعي تتفاوت في توقيتها وحجمها وأمد إستمرارها، غير أن السبب يكاد يكون وحيدا، وهو الإختلاف في الرأي الذي من المفترض ألا يفسد للود قضية، وإن اختلفت مشارب المهاجمَين السياسية والفكرية فإن توجهات المهاجمِين ظلت ثابتة ..
تتفق الشخصيات الثلاث في أنهم إختلفوا مع أولئك في الرؤية حول قضايا عامة واختاروا مقارعة الحجة بالحجة، ولكن لا شيء أخطر على الغوغاء من الحجة، ولا شيء يخيف جماعات الظلام التي تخطط لمصادرة الوعي غير نشر الوعي عبر الكلمة ،..
هل تعتقد عزيزي القارئ أن الهجوم المتواتر على هذه الشخصيات المحترمة هو مجرد صدفة ؟ أو حتى تعبير خشن عن إختلاف في الرأي ؟ سأجيبك أنك مخطئا إذا ظننت ذلك ، فكم من مختلف في الرأي مع الجهات المهاجِمة لم يتطرق إليهم أحد ، ولم يسبهم ناشط ، ولم يذكرهم مؤثر ..
الهدف الرئيس لتلك الحملات المصنوعة بعناية فائقة في إستهدافها للشخصيات وفي إختيار محتوى الحملة هو صناعة رأي عام لخدمة أهداف سياسية آنية أو مستقبلية ، وهو ما يعرفه خبراء صناعة الرأي العام بنظرية المنعكس الشرطي التي يعرفها خبير علم النفس الروسي إيفان بافلوف بأنها (فعل إعلامي بخلفيات سياسية أو إجتماعية له رد فعل جماهيري مدروس مسبقا ومعروفة نتائجه سلفا)، والغرض الأساسي من تلك الحملات هو برمجة عقول شعب ما لغايات سياسية..
وفي سبيل تحقيق هذه الغايات السياسية تقوم جهات محترفة ذات أجندة لخلق البيئة المناسبة التي توجد كتلة من الجمهور المستهدف الذي يقوم بالأدوار دون أن يكون كثير منهم علي دراية أنهم يعملون في ماكينة كبيرة تتم إدارتها على مستوى عالٍ من جهات تخفي نفسها، تقول المؤلفة والصحفية الإستقصائية الأمريكية شاريل أتكسون (يتوقف نجاح الحملة على البقاء مختفياً لجعل الأمر يبدو كما لو أنه غير مقصود، وبغض النظر عن المضمون، تتكرر المواضيع التي تصبح مقبولة من قبل الكثيرين كحقيقة) ..
وهو المعني نفسه الذي ذهب إليه مقدم البرنامج تاكر كارلسون الذي عانى من الحملات بعد إنشقاقه عن القطيع الأمريكي وتقديم إستقالته من فوكس نيوز، بل وسفره لموسكو ومحاورة الرئيس فلاديمير بوتين، يقول كارلسون (يجب أن تكون الحملة مثيرة للإهتمام تماما، ويفضل أن تكون بذيئة ، وإختصارها في جملة أو جملتين حتى أنه الأفضل أن يتم إختزالها في عبارة واحدة ) ( كأن يقال فلان كوز ) وانتهي الموضوع ..
في فترة من فترات ( الثورة ) تعرض الدكتور عبدالحي يوسف والأستاذ الهندي عزالدين لحملات ممنهجة من الإستهداف ، ولو سألت أيا من المهاجمين مثلا هل تعرف الأستاذ الهندي أو قرأت له مقالا سيجيبك بلا ، وستتلقى نفس الإجابة لو سألته عن الشيخ عبدالحي ، سيقول لك لقد أفتى بقتل المتظاهرين ، حسنا متى قال ذلك وأين؟ سيقول لك قالوا كدا !!!
والهندي؟ سيجيبك ( كوز ) لو سألته هل تعرف عدد مرات مصادرة صحيفة الهندي من الحكومة ؟ وعدد مقالاته ضدها ؟ وكيف عرفت أنه كوز ؟
ستكون إجابته أنه سمع آخرين يقولون ذلك ، وبالضبط ذلك هو المرجو وكيف يعمل نظام صناعة القطيع الذي يعرفه غوستاف لوبون علي أنه (ميل الأشخاص في المجموعة إلى التفكير والتصرف بطرق تتوافق مع الآخرين في المجموعة، أو تعديل وجهات النظر لتتوافق مع المجموعة وليس كأفراد مستقلين ) ..
وفي عالم اليوم الذي أصبحت فيه وسائل التواصل الإجتماعي وسيلة مهمة لتلقي المعلومات والأخبار فإن فرص صناعة البيئة والحواضن التي توفر ملاذا لنمو جماعات القطيع صارت سهلة وميسورة ، إذ توفر للمتلقي فرصة للتهرب من التفكير العميق وإمتلاك العقلية النقدية تجاه الجاهز من الأفكار والمواقف ، كما أنها تؤدي إلي إتباع الآخرين دون تفكير ، وهو ما يوفر الشعور بالأمان ويعطي الإحساس بالقوة كونك تسير في مجموعة وليس بمفردك ..
واذا أردت معرفة خطورة هذه الوسائط في صناعة القطيع وإدارته فعليك الرجوع إلي الفيلم الوثائقي The great hack والذي يتناول فضيحة شركة كامبردج أناليتيكا ، وسنعود إليها في هذا المقال ، ولكن دعونا نستعرض هنا رأي الخبير في مراقبة حرب المعلومات رونالد ديبرت الذي يشرح خطوات بناء القطيع والسيطرة عليه على النحو التالي :
– التحكم بالمشاعر والقرارات والسلوك والأذواق ..
– عزل المنغمسين في وسائل التواصل عن الواقع الإفتراضي للتحكم بإدراكهم ووعيهم ..
– التفرد بالتحكم بتلك الكتلة وتحريكها لصالح قادة الحرب التركيبية ..
– النجاح في تعطيل حاسة النقد والتفكير ..
بعد التغيير الذي حدث في السودان ، وبعد إندلاع الحرب اتخذ الروائي بركة ساكن موقفا متسقا مع ضميره الوطنى فقام عليه المهاجمون يشنعون موقفه ويبخسون بضاعته الأدبية ..
والسؤال هنا لماذا تعمل الآلة الآعلامية لجماعة المهاجمِين الآن ضد ساكن ، الإجابة لأنه اختلف معهم في الرأي وحاول مقارعتهم الحجة بالحجة ..
والإجابة كذلك لأن هذه الحملات مصنوعة وتنفذ بوعي أو بغير وعي من جماعة المهاجمِين الذين أدمنوا سياسة ( الردم ) ، تساعدهم في ذلك الجهات التي لديها القدرة علي توجيه الشركات العاملة في هذا المجال عبر التلاعب بالخوارزميات وإستخدام الحسابات المزيفة وقبل ذلك التلاعب بالعقول ..
في 2018 تفجرت فضيحة شركة كامبردج أناليتيكا المتخصصة في الإستشارات السياسية التي جمعت بيانات ما يقارب ال 90 مليون من مشتركي فيسبوك وقامت بتحليل بياناتهم الشخصية دون إذن منهم ووظفتها في التأثير على الناخبين في أمريكا وخاصة لدعم حملة دونالد ترمب في إنتخابات العام 2016 ، كما أنها ساعدت في التأثير علي قرار المصوتين البريطانيين في الإستفتاء للخروج من الإتحاد الأوروبي ..وتحت ضغط الرأي العام وافقت شركة ميتا المالكة لفيسبوك على دفع مبلغ 785 مليون دولار كتسوية قضائية جماعية رفعت ضدها لإتاحتها لطرف ثالث للحصول على بياناتهم الشخصية …
خطورة هذه القصة تتلخص في قدرة الشركات هذه على التأثير على الجمهور من خلال تحليل البيانات لمعرفة أذواقهم أو توجهاتهم السياسية ومن ثم تصميم الرسالة المناسبة لتوجيه تفكيرهم ومن ثم صناعة الرأي العام الذي ترغب فيه الجهات صاحبة الأجندة ..
ولنختم بتوضيح أخير للقارئ الكريم عن المصنع الكبير الذي يعد فيه الناشطين وتصنع فيه عقليات القطيع المتشابهة في تفكيرها الذي يقبل الإشاعات كمسلمات ولديه القدرة على مهاجمة الرموز السياسية والدينية والإجتماعية دون أن يعرف سبب الهجوم أو نتائجه ..
تقول الصحفية داريا اسلاموفا الخبيرة الروسية في تغطية الثورات الملونة ، أنها إستخلصت ستة مبادئ رئيسية لصناعة الثورات ، وذلك من محاضرة للعقيد في الجيش الأميركي روبرت هيلي والتي قدمها لبعض الشباب ( الثوار ) في دول أوروبا الشرقية ، وهي علي النحو التالي:
– فتاة ببلوزة بيضاء أو في ثوب أبيض في الصف الأول للتظاهرة ، وحبذا لو اعتدت عليها الشرطة ..
– إضرب واهرب ، تهاجم الشرطة وتهرب وتجعلهم يعتقلون أبرياء آخرين ..
– مضاعفة أعداد المقموعين ..
– الإعتماد على الشباب فقط ، لأنهم ليس لديهم ما يخسرونه ، ومن ورائهم آباءهم وأمهاتهم الموالين للحكومة ، والذين سيغضبون جدا من إعتداء الشرطة على حبيبهم ..
– لا توجد قيادة : نشر ثقافة أن العمل السياسي ممل وأن الأحزاب فاشلة للتمهيد لظهور الشخصيات الحقيقية التي تقف وراء الثورة..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى