السودان وحرب الاستعمار والاستيطان (3)
د. محمد حسب الرسول
إنّ التدخل الخارجي في الشأن السوداني خلال هذه المرحلة الانتقالية أفضى إلى تحويل طبيعة الصراع السياسي في السودان إلى صراع بين مشروع الاستقلال الوطني ومشروع الهيمنة الغربية على البلاد، التي أعادها إلى مرحلة ما قبل الأول من كانون الثاني/يناير 1956؛ تاريخ استقلال السودان، الأمر الذي أدركه المجتمع وبدأ بحشد طاقاته لمقابلة هذا التحدي الذي استجد.
إنّ “الاستعمار”، كما هو عهده وتاريخه، ليس حريصاً على الديمقراطية في “مستعمراته”. وقد طفق عبر تاريخه الطويل ينصب الحكام ويفرض الأنظمة، متجاوزاً حق الشعوب في اختيار حكامها وفي بناء نظم الحكم، ضارباً بعرض الحائط حقوقها المشروعة في الحكم الديمقراطي الذي يتأسس على الانتخاب والاختيار الحر الذي يؤسس الآن عينه لتداول سلمي للسلطة، لذلك تعمدت البعثة الأممية ومن ورائها الدول الغربية إطالة أمد الفترة الانتقالية والحؤول دون إجراء انتخابات تعيد السلطة إلى الشعب وتحقق التحول الديموقراطي.
وقد عرف “الاستعمار” عبر تاريخه بفرض قيادات مصنوعة على شعوبها خلال الحقبة الكولونيالية. وبرغم النتائج السالبة لهذا السلوك، فإنه لم يدرك بعد خطل ذلك الصنيع، ويريد أن يستمر في استدامة ذلك النموذج في غير قُطر، وقد عمل ولا يزال منذ بداية المرحلة الانتقالية وحتى الآن على فرض قيادة وتنصيب حكام يخدمون مصالحه، ويخاطبون أجندته، ويخطبون وده، ويستوي في ذلك عنده المدني والعسكري حين يتوافر الولاء، وهو ما أطال أمد المرحلة الانتقالية، وأضعف الدولة، وقسم المجتمع، وجعل الاستحقاق الانتخابي استحقاقاً صعب المنال.
التطبيع خيانة الموقف والتاريخ والحقيقة
منذ بداية الفترة الانتقالية، أصبح موضوع التطبيع موضوعاً للتنافس بين شركاء الحكم من مدنيين وقادة عسكريين، إذ يعتقد المتنافسون أن التطبيع هو وحده ما يبقي المُطبِع في السلطة التي لا يستطيع الوصول إليها عبر صناديق الانتخابات في بلد اللاءات الثلاث.
لهذا، بدأ المدنيون اتصالاتهم بدولة الكيان الصهيوني عبر دولة خليجية حيناً، وبشكل مباشر في حين آخر، كما بدأت تلك الدولة الخليجية بفتح خطوط الاتصال بين قادة الدعم السريع والكيان. حينها، دخل قائد الجيش على الخط، فسبق المتنافسين إلى عنتبي في يوغندا، واجتمع ببنيامين نتنياهو.
شعر المدنيون بأن شريكهم البرهان هدد بلقائه نتنياهو أحلام السلطة المخيمة على أذهانهم ووجدانهم، فبادر مجلس وزراء تحالف الحرية والتغيير برئاسة عبد الله حمدوك إلى إلغاء قانون مقاطعة “إسرائيل” لعام 1958، وقام المجلس بتعديل المناهج التعليمية لتخدم فكرة التطبيع ومشروعه، فحذف منها الدروس المتعلقة بفلسطين، وحذف منها أيضاً الدروس التي تزرع في النشء والطلاب روح الاستقلال الوطني، كما حذف منها ما ينمي روح البطولة والفداء الوطني.
وشمل الحذف والتعديل الدروس المتعلقة بتاريخ الاستقلال الوطني كدروس مناهضة الاحتلال البريطاني، وبالضرورة عدلوا مناهج التربية الإسلامية والمسيحية لتخدم مشروع التطبيع والمشروع النيوليبرالي، الأمر الذي حمل علماء الدين الإسلامي والمسيحي على تنظيم حملة رفض واحتجاج على المقررات الجديدة.
لم تنتهِ المزايدة بين شركاء الحكم الانتقالي بما سبق ذكره، فقد قام قائد الدعم السريع وأخوه بعقد لقاءات في الجانب الصهيوني في الدولة الخليجية المتولية زمام هذا الأمر، ولقاءات أخرى في جوبا وأديس أبابا وفي “تل أبيب”، كما شارك رئيس الوزراء عبد الله حمدوك ورئيس مجلس السيادة في القمة الرباعية التي جمعتهما بنتنياهو وترامب.
إن سعي تحالف الحرية والتغيير نحو التطبيع لا يعني في أي حال من الأحوال أن ذلك المسعى يعبر عن موقف الشعب السوداني الذي ظل ثابتاً على مواقفه المناهض للتطبيع والداعم للقضية الفلسطينية، وملتزماً لاءاته الثلاث التي أطلقها عام 1967، وهو يؤكد دوماً مواقفه الراسخة التي أطلقها منذ حرب 1948 وما تلاها من حروب حين اختلطت دماؤه بدماء الشعب الفلسطيني على تراب فلسطين.
وبالمثل، فإن مسعى قائد الجيش إلى التطبيع لا يعني أبداً أن المؤسسة العسكرية تمضي في المسار ذاته، وهي التي ساندت ودعمت في 1958، وقاتلت في 1967 و1973، وفتحت مصانعها ومخازنها للمقاومة الفلسطينية في كل الظروف وأصعبها، وهي التي كانت وستظل صاحبة أسهم معتبرة في كل مدافعة فلسطينية مع الاحتلال تمت خلال العقود الثلاثة الماضية، لا شك أن في التطبيع خيانة لتاريخ السودان، وخيانة لمواقفه، بل خيانة للحقيقة في أوضح صورها.
الطور الثاني لمشروع الهيمنة الخارجية على السودان بالوسائل السياسية والدستورية
بعد سيطرة الخارج على السودان عبر السلطة الانتقالية بمكونيها المدني والعسكري، وخلال عامين ونيف قضاها تحالف الحرية والتغيير في الحكم، قام خلالها بتفكيك مؤسسات الدولة وتشريد آلاف العاملين من الكفاءات الوطنية، الأمر الذي أثر سلباً في قدرة الدولة في القيام بواجباتها تجاه الوطن والمواطنين، كما بذل خلالها جهوداً كبيرة من أجل إعادة هندسة الواقع الاجتماعي والسياسي، بغية إحداث تحول جوهري في هوية المجتمع واستبدال منظومته القيمية والأخلاقية.
وقد قدم التحالف تجربة حكم تصلح أنموذجاً للاستبداد والطغيان والديكتاتورية المدنية التي لم يعرف السودان مثيلاً لها لا في حقب الحكم المدني ولا العسكري، كما اتسمت هذه الفترة بأعلى درجات الاستلاب الخارجي والاستسلام للخارج وتبني مشروعه المتعدد الأبعاد.