السودان وحرب الاستعمار والاستيطان (2)
د. محمد حسب الرسول
أن يكون من مهمات البعثة: دعم تنفيذ الإعلان الدستوري (الدستور الانتقالي)، والرصد المنتظم لتنفيذ نقاطها المرجعية الرئيسية؛ الاضطلاع بعمليات الإصلاح القانوني والقضائي؛ وإصلاح قطاع الأمن (الجيش، والشرطة، والأمن)؛ وإصلاح الخدمة المدنية؛ ووضع الدستور الدائم؛ ودعم جهود السلام، وودعم إعادة المشردين داخلياً واللاجئين إلى أوطانهم وإعادة دمجهم.
استجاب الأمين العام للأمم المتحدة لطلب رئيس الوزراء الانتقالي، وبموجب ذلك أنشأ مجلس الأمن الدولي في 4 حزيران/يونيو 2020، بالقرار الرقم 2524،أنشأ بعثة سياسية أممية للسودان حملت الاسم المختصر “يونتامس”، وقد قابل تحالف الحرية والتغيير هذه الاستجابة بحفاوة بالغة، لأن هذه البعثة في نظره ستحقق أهدافاً كبيرة، من بينها تقليم أظفار المؤسسة العسكرية، وصناعة معادلة جديدة لمصلحة رئيس الحكومة وحاضنته السياسية، برغم المخاطر الكبيرة التي ستترتب على وجود هذه البعثة وأهدافها ودورها من مخاطر كبيرة تستهدف سيادة البلد واستقلاله.
اختار الأمين العام للأمم المتحدة الألماني فولكر بيرتس الذي عمل مع بول بريمر في العراق إبان الاحتلال الأميركي له، ثم عمل مستشاراً لمبعوث الأمين العام للأمم المتّحدة لسوريا خلال الحقبة 2015 – 2018، كما عمل أستاذاً في جامعة هومبولت في برلين، وأستاذاً مساعداً في الجامعة الأميركية في بيروت (1991 – 1993)، وترأس مجموعة أبحاث الشرق الأوسط وأفريقيا حتى نيسان/أبريل 2005، وعمل مديراً للمعهد الألماني للسياسة الدولية والأمن، وله كتاب بعنوان نهاية الشرق الأوسط الذي نعرفه.
ولعل في السيرة الذاتية لرئيس البعثة الأممية بخبراته في العراق وسوريا وخبراته الأخرى عنواناً لطبيعة المهمة التي اختير لها في مهمته الجديدة في السودان. باشر فولكر بيرتس عمله في السودان، وصادر القرار الوطني بشكل كامل تقريباً، وأصبح حاكماً عاماً للسودان يأمر فيُطاع. وقد تسبب بذلك في نشوب الحرب التي يشهدها السودان حالياً.
يتضح من طبيعة البعثة التي جاء تفصيلها في رسالة رئيس الوزراء أنّها بعثة سياسية وشاملة من حيث التكوين، وأن لها قيادة واحدة تجتمع تحت إمرتها كل المؤسسات الأممية، وأن نطاق ولايتها يشمل كل السودان، وأن أجلها الزمني يمتد لعشر سنوات هي عدد سنوات المرحلة الانتقالية المقترحة من تحالف الحرية والتغيير الذي كان حاكماً في السنوات من 2019 إلى 2021، وأن الرسالة منحت الأمين العام للأمم المتحدة تفويضاً لتطوير البعثة تحت مسمى الإصلاح بما يجعلها مفتوحة الأهداف والوسائل والآليات.
كما أن البند الأول في مهمات هذه البعثة الوارد تحت صيغة دعم تنفيذ الإعلان الدستوري وضع البعثة في مرتبة أعلى من كل مؤسسات المرحلة الانتقالية، وخصوصاً مجلسي السيادة والوزراء، إذ منح هذا البند الحق للبعثة في مراقبة أداء المجلسين، وممارسة عمليات المتابعة والتقييم لأعمالهما، وتصويب تلك الأعمال من موقع الوصاية المسنودة بقرار أممي.
بالنظر إلى مهمات البعثة، وفق رسالة عبد الله حمدوك التي اعتمدها القرار الأممي المنشئ للبعثة، فإنّ تلك المهمات تُمكن البعثة، وبصورة كاملة، من ممارسة الوصاية والانتداب على السودان، وهو ما ثبت إلى حد كبير خلال مدة عملها، ومن خلال ممارساتها العملية.
كما أن مهمات البعثة تشمل مباشرةً إعادة هندسة أوضاع الدولة تحت مظلة إصلاح مؤسساتها التي وردت ضمن المهمات، وهو الذي تمت ترجمته عملياً من خلال تفكيك بعض مؤسسات الدولة، وإضعاف المؤسسات التي لم يشملها التفكيك، ومن خلال عمليات الإحلال والإبدال التي شملت كوادرها، إذ شهدت حقبة حكومة عبد الله حمدوك الأولى والثانية فصل وتشريد آلاف الكفاءات الوطنية التي تمرست في العمل، وتشبعت بقيَمه وتقاليده، واكتسبت وراكمت عبر عقود من الزمن خبرات كبيرة تم استبدالها بأصحاب الولاء السياسي وببعض الذين جاء بهم التغيير من خارج الحدود.
لم تكن مهمات البعثة التي جاءت في رسالة رئيس الوزراء وتضمنها قرار مجلس الأمن الذي أنشأها ، مصوبة فقط نحو إعادة تكوين مؤسسات الدولة على نحو جديد يخدم هدف صناعة حاضر جديد للدولة السودانية تحت قيادة البعثة الأممية من خلال عمليات التفكيك والتركيب التي استهدفت المؤسسات، إنما مكّنت هذه المهمات البعثة أيضاً من صناعة مستقبل السودان عبر وضع الدستور الدائم للبلاد وسن قوانين جديدة بعيداً من الإرادة الوطنية، وبمنأى عن تطلعات المواطنين ووجدانهم وهويتهم التاريخية والحضارية، علماً أن للسودان خبرات وتجارب دستورية غنية جداً استفاد منها الإقليم بأثره، إذ كتب بعض الخبراء السودانيين كل الدساتير التي حكمت بلادهم منذ عام 1953 وحتى دستور 2005 الذي تم تعليق العمل به في 11 نيسان/أبريل 2019، وأن بعض خبرائه كتبوا دساتير دول عربية وآسيوية، وأن القانونيين من أبنائه أسسوا عدداً من المنظومات العدلية، وصاغوا قوانين دول كثيرة، ولا سيما في دول الخليج، وأن أساتذة القانون السودانيين درّسوا في جامعات كثيرة في محيط السودان العربي والأفريقي، وتخرجت على أيديهم أعداد كبيرة من دارسي القانون.