الحكومة التي يستحقونها (١-٢): لابد من روما وإن طال السفر
السفير/ كرار التهامي
الحكومة التي يستحقونها كتاب ألفه بالإنجليزية المفكر الراحل منصور خالد بعنوان
“The Government They Deserve ”
يتناول دور النخب السودانية في التطور السياسي والعبارة ليست من بنات أفكار منصور فهي كانت متداولة في أدبيات السياسة منذ عقود طويلة قالها ونستون تشرشل قبل سبعين عام “كل شعب في العالم ينال الحكومة التي يستحقها.” وسبقه توماس جيفرسون الرئيس الأمريكي الذي قال “كل أمة تنال الحكومة التي تستحقها “وقبلهم بأكثر من مائتي عام قالها الفيلسوف الليبرالي المنظر للملكية الفرنسي بعد اختلاج واضطراب الثورة الفرنسية جوزيف دي مايستري
” A country gets the leaders it deserves ”
وهي أقرب في المعنى للحديث الشريف المختلف حوله “أنتم مثل ما يولي عليكم” أو في رواية أخرى “كيفما تكونوا يولى عليكم”
◾ فهل مر على شعب السودان حين من الدهر أن وجد الحكومة التي يستحقها أم إن المسألة ليست ضربة لازب وتحتاج التدبير والتبصر وحسن التفكير والفطنة الوطنية والتنوير وهل الحكومات السيئة منذ الاستقلال والتي ناءت بكلكلها على صدر الوطن وكتمت أنفاسه وقتلت طموحاته هي واقع قدري لا فكاك منه يستحقه الشعب الطيب الذي هبط بعد الاستقلال من سماء الطموحات الكبرى إلى أرض الصراعات والفشل والأحلام الصغرى أم أن هنالك مفارقة في هذه الظاهرة وأن الشعب رائع ويستحق أكثر من حكومة رائعة لكن الواقع أغبر ؟؟!
◾الشعب السوداني من الناحية البيولوجية والإثنية يمثل تكويناً مثالياً وليس ضعيفاً وضاوياً في بنيته الذهنية فهو يجمع أخلاط عرقية عربية وأفريقية ونوبية والهجين cross breed في علم الوراثة أكثر تفوقاً من الصفاء العرقي ووحدانية السلسلة الوراثية من ناحية القدرات الذهنية والذكاء العاطفي وأعلى درجة في الإدراك من غيره بسبب هذه الهجنة التي تتمظهر في كثير من الصفات المزدوجة بين الغضب والحلم والرفض والقبول والأنفة والتواضع والجهل الضيق والعلم الواسع مع الاعتبار لتأثير العوامل البيئية في (حث) أو (حبس) هذه الصفات.
◾والشعب السوداني استفاد من المساكنة مع الاستعمار الإنجليزي بعد الثورة السودانية في القرن الثامن عشر التي أنهت حكم الأتراك وانهزمت أمام الاستعمار واندغمت في التجربة البريطانية فأنتجت المستوى التعليمي الرفيع وطورت الإدارة المدنية والأطر المهنية الحديثة والممارسات الإدارية المتميزة وخرّجت جيل من الحداثيين والمتعلمين تعليماً رفيعاً.
◾ على هذا النحو كان الشعب السوداني سباقاً للشعوب العربية والشعوب الأفريقية المحيطة به في مجالات الحضارة والتنمية واستيعاب المعارف فهو صاحب أعرق الجامعات في المنطقة وأول من وظف المرأة في القضاء والشرطة وصاحب أكبر نهضة زراعية وأكبر مشروع زراعي في أفريقيا والأول في بناء السدود وأكثر الشعوب مساهمة في نهضة الدول الأخرى النامية في أفريقيا ومنطقة الخليج وغيرها وعلى الصُعد الثقافية كان من المؤسسين للمسرح والفنون والرياضة الأفريقية التي بدأت هياكلها وفكرتها في الخمسينات في العاصمة الخرطوم.
◾وفي زماننا الراهن أثبتت الكوادر السودانية الحديثة التي تخرجت من الجامعات الكمية والنوعية المنتشرة في أنحاء القطر كفاءة عالية في مواجهة التحديات المعاصرة مثل تحدي القدرات الأكاديمية عالمياً وتحديات التكنولوجيا والتصنيع الحربي والبنى التحتية والجسور رغم الحصار الدولي الخانق الذي استمرّ زهاء الثلاثين عاماً ومطاردة الممولين وتخويف الدول المتعاونة.
◾ هذا الكلام ليس من باب الشعوبية التي تتفاخر بها كثير من الشعوب وتتباهى بنفسها لدرجة الغرور المضلل لكن هذه حقائق مبنية على وقائع التاريخ المكتوب والمعلوم بالضرورة وعلى القراءة الموضوعية ومعرفة الذات وعلى الأمل بالوصل إلى روما وإن طال السفر.
◾ فما هو سر هذا التناقض في السودان بين سوء الحكومات وعوارها وروعة الشعوب وابتكارها ومتى أو كيف يختار الشعب الممتاز الحكومة الممتازة التي تشبهه وماهي العناصر الخفية التي وقفت حجر عثرة عبر الحقب دون المحافظة على تواتر التنمية واستمرارها ؟!
وهل تكفي صدمة الحرب war trauma لإعادة التوازن بين طرفي المعادلة فيحظى الشعب الممتاز بالحكومة التي يستحقها وماهو شكل هذه الحكومة ؟؟!
نواصل