الرقص على نيران الانتظار … حالة تذوق بين نص ولحن في أغنية “راح الميعاد”
عبداللطيف مجتبى
النص الشعري الفارِة مثل بلورة ساطعة تتولد عبرها ألوان طيف شفيفة، وتترشح من بينة القراءات، الرؤى الجمالية، الأحاسيس، والاستجابات المتعددة والمتنوعة بتنوع خبرات المتلقين. كما أنه يصبح منطلقاً لأعمال فنية أخرى كالتلحين والتوزيع والغناء وغيرها من الفنون التي تتخذ من النص الشعري موحاها وجذوة إلهامها وباعث طاقتها الأولى. ويصنع لها مناخها وبيئتها الجمالية.
ولكن أحياناً قد يكون الأمر على غير ذلك كلية، وهذا هو موضوعنا الذي جاء عنوانه: “الرقص على نيران الانتظار”. للوقوف على تجربة فريدة حقلها أغنية (راح الميعاد) التي تغنى بها الفنان الراحل الدكتور عثمان مصطفى، للشاعر إسحق الحلنقي الذي جعل منها منصة لوهج الروح في لحظة الشوق والانتظار والغربة، وبؤرةً مركزية لصراع متأجج يدور بين الأمل والرجاء واليأس والقنوط، وتلك التجاذبات العنيفة التي تعتري نفسه الوالهة في تلك اللحظة البرزخية (الانتظار) إذ تمتزج فيها مشاعر السعادة بالحزن، والخوف بالسكينة والأمل والرجاء باليأس إذ يقول يائساً:
ياقلبي ما تسهر معاي ما أظن يفيدنا الانتظار
ثم يقول:
راح الميعاد وزماني راح وجرحي لا نام لا استراح
لكني متكتم عليه كم من جراح أحيت جراح
هذه اللحظة الحزينة المذعنة إلى الصمت والألم، وعذاب الانتظار. والاحتراق، وغيرها من هذه الأجواء المؤثرة كفيلة بأن تقود الموسيقار عبد اللطيف خضر كملحن للأغنية إلى فضائها الباكي الحزين وينقاد خلف مواكب ليلها الطويل، إلا أنه فاجأنا بوقوفه على قمة ذلك الحطام ليفجر منه لحنه الراقص الممعن في القهقهات التي جعل من تلك الحروف الموسيقية المتقطعة إشارة لها، وتلك الجمل الموسيقية الرشيقة التي ظلت تلاعب المشاعر على طول ميلودي الأغنية، وتتقافز بين كل مقطع كلامي وآخر كعصفور ممراح على ينبوع ماء صافي، لتتعاكس فيه الرؤى الفنية على مرآة مشاعرنا الهائمة بين هذا وذاك، فما أن يقول النص الكلامي:
جفت ورود الأمنيات يا حليل زمانه الإخضرار
حتى يرشقها اللحن بزخات من عبير ذلك الفرح الرافض لتلك الكلمات اليائسة
وما إن قال:
سكت النغم سكت الكنار.
حتى عاجله اللحن ساخراً من ذلك الصمت بالقهقهات والضربات الإيقاعية المنفردة /صولو إيقاع.
وهكذا تستمر المساجلة بين اللحن الراقص والنص الشعري الحزين والذي-للأمانة- لم يكن يائساً على عمومه فقد عبر الشاعر في بعض لحظاته عن تشبثه بالأمل إذ يقول:
طول البعاد ما أظن يفيد آمالي فيك ما بغيرها
وغيرها من مواطن الإشراق والتفاؤل باللقاء وإن طال الانتظار. ولكن ربما بداية القصيدة الصادمة وذلك اللحن المفارق الذي جاء به الحاوي قد زادا من الشقة بين ذانيك المناخين.
ومن هنا يمكن القول إن لحن أغنية راح الميعاد من هذا المدخل قد شكل عملاً موسيقياً موازياً ومتعاكساً مع النص الشعري ومتقاطعاً معه من جهة التعاطي مع فكرة الانتظار وحمولاتها النفسية والدلالية. فإذا قمنا بعملية فصل إجرائي بين اللحن والنص لوجدنا أن العمل اللحني قد أصبح مقطوعة موسيقية مستقلة بذاتها مثلها مثل معزوفة (مقطوعة ليلية صغيرة) لمودزادت مثلاً. ولبرز كذلك الاختلاف المناخي بينهما جلياً، فبينما تتفلت من اللحن ألوان البَهار والاحتفال ومهرجان الإيقاع الراقص وضجيج الفرح وصرخات الميلاد الجديد، تجد في مقابلها لحظات من الصمت المدوي بين تلك الحروف التي سطرها الشاعر بإحساسه المرهف الصادق معبراً عن لحظة انتظار عبثي لا متناهٍ.
عموماً ما قام به الأستاذ عبد اللطيف خضر ود الحاوي في هذه التجربة المختلفة يشبه – إلى حد كبير – مدرسياً موقف المدرسة الدادية التي راج طرحها إبان الحرب العالمية الأولى وما بعدها والتي تمرد فيها الفنانون التشكيليون والأدباء وقدمت بدورها أعمالاً رافضة للواقع المرير الذي بدا مسيطراً على المشهد العام في تلك الفترة جراء الحرب. هذا بالطبع مع الفارق في الأهداف بين ما ذهب إليه ود الحاوي وما قدمته تلك المدرسة. حتى لا نحسب تجربة على الأخرى تفادياً للمماحكات النظرية التي قد تقودنا إلى فضاءات غير مرتبطة بسياق التذوق الذي نحن بصدده الآن.
الطريف في أمر هذه التجربة هو ذلك السباق المحموم بين النص واللحن الذي وجدنا أنفسنا فيه، وهو أن كلاً منهما – بطبيعة الحال – يحاول استمالتنا إلى منطقة حالته الشعورية إلا أننا وجدنا أنفسنا إلى اللحن أقرب فساقنا -لا شعورياً – كمتذوقين إلى منطقة الفرح والمهرجان الذي شيده الحاوي على حطام مرائي حالة الانتظار ونيرانها المستعرة التي أوقدها فينا الحلنقي، فصرنا بهذا الانحياز العفوي نردد تلك الكلمات الحزينة ونحن في حالة من الفرح الغامر، وهذا لعمري ما أراده إلينا الأستاذ ود الحاوي، فقد أحال مشاعرنا التي كانت تغوص في وحل الانتظار، بضربة سحرية من عصاة المايسترو، إلى حالة من الفرح والسعادة ضاربين صفحاً عن ذلك الانتظار لحبيب يجيد المطال.
ولكن ما الفلسفة وراء كل ذلك؟، ومالذي يمكن أن نستشفه من هذه التجربة؟
لعل الموسيقار الحاوي أجرى هذه المقابلة الفنية الرائعة ليقول للعالم إن لحظة اليأس عابرة، كلحظة الفرح تماماً، فمزج بين اللحظتين مؤكداً على فلسفة الحياة وأن الفرح يقبع بين طيات الحزن والعكس صحيح.
ختاماً لابد من التأكيد على أن جوهر العملية الفنية بشكل عام هو الاختلاف الذي يبحث عنه المبدعون عبر أدواتهم الفنية المتنوعة فهو إذاً مشوار صيدهم الدائم الذي يمشون إليه خماصاً، ويعودون بطاناً محملين بمرائي الجمال والعوالم البديلة.