الأفعى الثالثة: علاقة الجيش بالسياسة والسلطة الرديفة
الأفاعي العشر واحترازات ما بعد الحرب (٣-١٠)
الأفعى الثالثة: علاقة الجيش بالسياسة والسلطة الرديفة
د. كرار التهامي
في المقالين السابقين تناولت أمرين من الأمور التي أطلقت عليها (الأفاعي العشر) بغرض الحذر منها حتى لا يعيد التاريخ نفسه وتخرج من جحورها بعد الحرب وتعضي من جديد ،،،
الأمر الأول حاجتنا كسودانيين لجرعة عالية من الوطنية تعيد إلينا الثقة الغائبة وتحبب إلينا وطننا وتجعلنا نبصره كأجمل وطن في الدنيا،،
والأمر الثاني هو أفعى انتشار السلاح بعد الحرب والذي تحتاج فيه الدولة لمجهود كبير وخارق لضبطه وجمعه احتكاره حتى لا يتحول إلى أداة جريمة في حياتنا اليومية ووسيلة تمرد جهوي أو قبلي.. وسأواصل في شرح الأمور العشرة.
في هذا المقال سأكتب عن الأفعى الأخطر والأهم أثراً والأكثر سُمَية بعد الحرب وهي أفعى العلاقة المدنية -العسكرية
(CMR) civil-military-relation التي تقف وراء أزمات السياسة وتحتاج إلى توازن جدلي للوصول إلى منطقة وسطى بين كثافة الحكم العسكري وشدته ورهافة الحكم المدني وضعفه للوصول إلى فرضية ثالثة تجمع حسنات الإثنين داخل مساحة دستورية تتوافق حولها النخب السياسية (elites) والمجتمع المدني (citizenry ) مع الجيش (military ) على ضوء مقاربات تاريخية عديدة وتأصيل فكري لعلماء السياسة والاجتماع وتجاريب سياسية متعددة لمجتمعات وصلت إلى هذا التوازن بعد عقود من التجربة والخطأ.
إن فكرة عودة الجيش إلى ثكناته فكرة عاطفية وطفولية غير موضوعية وبلا مبرر دستوري أو أخلاقي فعملياً الجيش كما يقول جي استانلي “إنه رغم انحسار موجة الانقلابات وتدخل الجيوش يظل الجيش متمتعاً بنزعة عميقة للعمل السياسي تتطلب اعتباره مكون سياسي مهم” …… فالطريقة الوحيدة لترويض الجيوش هي توظيفها إيجابياً في إطار دستوري ديمقراطي هو إشراكها الفعلي وليس المعنوي في صيانة الدستور ويكون بمثابة المحكم arbiter بين الأطراف والمؤسسات السياسية دون الافتئات على العناوين الكبرى للديمقراطية والعدالة السياسية وعندما تصل الديمقراطية إلى مداها وتستقر في مدارها يصبح الجيش مهنياً واحترافياً ويتم الفصل بين المدني والعسكري موضوعياً وفي إطار التوافق.
تقول الدكتورة رييكا شيف أستاذة القانون في جامعة هارفارد وصاحبة نظرية التوافق concordance إنه في حال توافق المكونات الثلاثة (الجيش) و(النخب) و(المجتمع المدني) على أربعة محاور أهمها المشاركة في القرار السياسي فإن احتمالات الانقلابات والتدخلات العسكرية ستكون أقل
. ” So the argument here is that if there is agree- ment or Concordance among these three actors over these four indicators the likelihood of domestic military intervention or coup happening in
any country is less likely to happen…”
في إطار نظريتها قارنت ربيكا دول عديدة لتثبت أن الدول التي تشهد الانقلابات وتدخلات الجيوش هي التي يتم فيها تهميش الجيش واستفزازه ومحاولة حرمانه من المشاركة بحجة أن الجيش دوره فقط جلب السلطة للمدنيين على طبق من ذهب وخفارتهم وحراستهم ليعيثوا فوضى في المسرح المهتز الديمقراطيات التي أشار إليها صامويل هنتنغتون في كتابه (الموجة الثالثة) التي اجتاحت في بداية السبعينات قارات أوروبا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا وعبرت من مرحلة الانتقال Transition إلى مرحلة الترسيخ consolidation تحققت بفضل سيطرة الجيوش وإشرافها على المراحل الانتقالية بقوة وسيطرتها الكاملة عليها وضبطها للمجتمع السياسي المدني وتنظيم ميدان المنافسة الديمقراطية بصورة عادلة وتنقيتها من آفات الصراع السياسي وتغليب المصالح.
لقد ساهمت العوامل البنيوية والثقافويةً وضعف الأطر والبني التنظيمية للأحزاب التي تأسست على الزبائنية والبطريركية والانغلاق ولم تتطور ولم تمارس الديمقراطية في داخلها لعقود طويلة بالإضافة للفقر المجتمعي وقلة الوعي الديمقراطي عند النخب والعامة وكل العوامل التي ساهمت في إجهاض أحلام التغيير وأصبح من الصعب جداً تغيير تلك العوامل من الأسفل إلى الأعلى إلا بدخول الجيش لفرض الإصلاحات من الأعلى إلى الأسفل حينها يغرق الجيش في مستنقع السياسة إذا استمرأ الحكم وتدخل البلد في متاهة إذا ترك الحكم للنخب الأوليغاركية الفاشلة فأين يتموضع الحل..؟
يقول د. عبدالفتاح ماضي الأكاديمي والباحث ومنسق مشروع التحول الديمقراطي بالمركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات “أثبتت الحالة البرازيلية أن الانتقال ممكن على يد العسكريين إذا كانت لديهم رغبة حقيقية وإذا توفرت خارطة طريق محددة تتجه نحو الانتقال…
نواصل الحلقة القادمة