على وجه الضَّحِك المحظور..!!
فيما أرى
عادل الباز
على وجه الضَّحِك المحظور..!!
بدا الأمر كحُلمٍ عندما جلسنا في تلك الليلة – أنا والصديق المحبوب عبدالسلام – نشاهدُ النَّهر المتدفق من الصِّدق والحكايا المدهشة والشِّعر البديع في تلك السهرة مع هاشم صِدِّيق، التي قدَّمتها الرائعة نسرين النمر عبر قناة حسن فضل المولى الجميلة ‘النيل الأزرق’. بالنسبة لي، تلك اللحظات كانت حُلماً محضاً، إذ أنني طيلة سبعة عشر عاماً أنتظر هذه الإطلالة، ولكن خاب أملي، بل ومسعاي لسنواتٍ حين رفض القومُ بعنجهيَّة يُحسَدون عليها أنْ يتحلوا بقدرٍ من التسامُح، والنتيجة التي حصدوها أنَّ الأجهزة تيبَّست وأصبحت كأعوادِ نخلٍ خاوية وعاطلة عن أي إبداع.
أطلَّ هاشم صِدِّيق في “الليلة ديك” يحملُ شجناً دفيناً ومراراتٍ لطالما تجرَّعها بصبرٍ عجيبٍ طيلة تلك السنوات العِجاف. لم تكن القضيَّة أنَّ برنامج “دراما 90” قد غُيِّب عن جمهوره، ولا في حرمانه كمُبدع عن حريَّة التعبير في الأجهزة الرسميَّة دون سبب جوهري، إنَّما الذي أرَّقني أنَّ بشراً بمقدورهم ارتكاب مثل تلك الحماقات لا يزالون يتسنَّمون مواقع رسميَّة لم يُؤهلهم لها علمٌ أو إبداع. ولا أزال أذكرُ قصة رواها لي هاشم أنه ذات مرَّة ولج باب التلفزيون فاستوقفه أحدهم وسأله عن اسمه وغرضه، فتلفَّتَ هاشم قائلاً: «يا إلهي متى تأتي القيامة؟».
أصابتني السَّهْرَةُ بشجن عجيب و“أكلة” داخل الضمير لا سبيل لحكِّها، ليس لأنَّ هاشم صِدِّيق “صديقٌ” وحبيب، ولا لأنَّ بوحه كان شفيفاً ومؤثراً، بل لأنني شعرتُ بأنَّ الظلم يمكن أن يتمدَّد بيننا لسنواتٍ دون أنْ نُحِسَّ بواجبنا تجاه مناهضته حتى بداخل الساحة الإبداعيَّة، التي يدَّعي كثيرون أنَّهم حُراسُها.. تلك هي المأساة.
ثلاثة أبعادٍ رئيسةٍ شكَّلت هاشم كمُبدع وجعلت منه عَلَماً وثروة قوميَّة، بتعبير أستاذنا الدكتور عبدالله حمدنا الله. في بُعده الأوَّل والأساسي، هاشم صِدِّيق شاعر ولكن كان في الشِّعر مقتله! حينما نهض هاشم يدعو لحُقوق الشُعراء وخاض المعركة بغيرهم، كسبوا هُم وتركوه وحيداً للسهام، ولم يستفد هو من الثورة التي قادها شيئاً، سوى أنه أرسى قِيَماً وجعل قانون الملكية الفكريَّة الآن “يقدل” في البلد والجميع يأخذون حقوقهم “على داير المليم”، أحياءً وأمواتاً، فلولا تمرُّد هاشم وتضحياته لما عرف الشعراء لحقوقهم سبيلاً. وعِوضاً من أن يشيِّدوا له تمثالاً، قذفوه بحجارة الجُحُود. تظلُّ قيمة هاشم صِدِّيق الشِّعريَّة من “ملحمة” ود الأمين وحتى “عصفورة” وردي في مجال الشِّعر الغنائي مجالاً لا يطاوله فيه الأقزام:
ما هزَّ دوحك من يقزم يطاوله..
فما استطال ولم تقصر ولم يطل
هاشم صِدِّيق ناقدٌ وأستاذٌ لأجيالٍ من النُّقّاد، ولكن بعض الصَّحفيين النَّقَدة الجَهَلة الذين ما قرأوا كتاباً واحداً في علم النَّقد، نصبوا المشانق لأوَّل مسلسل تلفزيوني من إخراج وتأليف هاشم صِدِّيق “طائر الشفق الغريب”.. لم يكن نقداً للمُسلسل، بل كان محض هرج صَحَفي.. لم يسعوا لتفكيك نصِّ المُسلسل، ولا التأمُّل في طرائق إخراجه، ولا أداء الممثلين وهُم قامات في عالم التمثيل، من لدن المرحوم عيسى تيراب والشبلي والسُني وغيرهم.. كان المطلوب شيئاً غير النَّقد وهو رأسُ هاشم صِدِّيق المُؤلف والنَّاقد، ولكن الذين شنَّوا ذاك الهجوم بقصدٍ أو بغيره، لم ينتبهوا إلى الكارثة التي جَرَت على أيديهم. النتيجة لهذه التصفية الفنيَّة هي تصفية الدراما السُّودانيَّة نفسها، فمِنْ يومها لم تكسب الدراما السُّودانيَّة عافيةً، ولم يجرؤ إلاَّ القليلون على الاقتراب منها!
إذا كان هاشم صِدِّيق بكُلِّ خبرته وأدواته الفنيَّة المتعدِّدة والمُقتدرة لم ينجح في إنتاج مسلسل، فكيف بالذين هم أقلًّ منه قامةً وإبداعاً وتجربةً؟! أذكر أنَّني كنتُ في تلك الأيام قد فرغتُ من كتابة السيناريو لمُسلسلي الأوَّل “قبل الشروق”، وكان يُفترض أن أسلمه لأستاذنا مكي سنادة، فخفتُ بعد ذبح “طائر الشفق الغريب” ولم أتقدَّم به إلاَّ بعد فترة وبدون أن أكتب اسمي عليه. كنتُ مرعوباً من المغامرة بمُسلسل بعد أن شاهدتُ ما جرى لطائر هاشم صِدِّيق. وفي يومٍ جاءني أستاذنا مكي سنادة ليقول لي إنَّ مسلسل “قبل الشروق” رائع وتمَّت إجازته بموافقة كُلِّ أعضاء اللجنة ولكنهم لا يعرفون كاتبه! فحمدتُ الله ووضعتُ اسمي على المُسلسل، وتلك قصة أخرى.. يا تُرى كم عدد الكُتَّاب الذين لم يتقدَّموا بكتاباتهم خوفاً من المشانق؟!
وعلى ذكر الدراما التلفزيونيَّة – حيَّاك الغمام يا السر السيد – فيوم شُكرك ومعرفة قدرك لا بُدَّ ستأتي، لما أسديتَ للدراما من نفع، ناقداً ومديراً لقسم الدراما بالتلفزيون.. لا، بل مُفكراً وساعياً لنهضتها منذ النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي وحتى 2003م حين افترستها الوحوش.
من كتاب (تجديف على شواطئ مزهرة) للكاتب