عبد الله علي إبراهيم يكتب: أرجوكم ألا تعطوا الثورة اسماً فسوقاً: وفعلتم
انتظرت من صلاح مناع وسائر أعضاء لجنة تفكيك نظام يونيو 1989 أن يكتبوا عن تجربة في الثورة استنت المساءلة المؤسسية لرجل الخدمة السياسة والدستورية والعامة كما لم يحدث لنا من قبل. ودعوتهم ألا يكون قرار حل اللجنة هو نهايتها إلى الأبد. فقد أثارت اللجنة ثائرات استثمرتها الثورة المضادة لتكتب سردية من محض غبائنها عنها صارت للأسف هي المعلوم بالضرورة عنها. بل، وتطبيقاً لدعوتي، واصلت أنا مع بعضهم كتابات أرادت أن تجلي الريب التي أحدقت باللجنة لأفاجئ بإهمالي من اللجنة وإغلاق التلفون في وجهي. وانتظرت من صلاح مناع، الذي سلقت الثورة المضادة سمعته بالذات بألسنة حداد، طالما أخذ في الكتابة، أن يدلي بشهادات تسترد إرث اللجنة من براثن الثورة المضادة. وخذلني. فاستنكرت تغريدات منه غاية في السذاجة عن البرهان وما أدراك ما البرهان.
قال الإمام الصادق مرة لسلف الحرية والتغيير الذين أوسعوه نقداً صالحاً وغير صالح (كثيرة) إنهم “مضيعين ليهم حكومة” بعد نهاية الحكومة الانتقالية المؤسفة بعد ثورة أبريل 1985. وأكثر ما يصدر عن قحت أو تقدم اليوم مما يمكن القول إنه لواعج من أضاعوا ثورة ولا يريدون أن يتحملوا قسطهم في إضاعتها. أضاعوها في مكان معتم، كما يقال، ولكنهم مواظبون على البحث عنها تحت لمبة الكيزان أو البرهان. وأجدهم عليه يصعرون خدهم دون اخضاع أنفسهم لحساب النفس اللوامة. فهم براء من أي وزر لما انتهينا إليه. وحتى حين عقدوا الورش لتقييم تجربة أداء الحكومة الانتقالية طبطبوا على أكتافهم وانصرفوا.
تجد أدناه رسالة مني إلى أعضاء لجنة الاستئناف في لجنة تفكيك نظام الإنقاذ التمس منهم سد ثغرة الاستئناف من قرارات لجنة التمكين في أدائها طلباً للقسط.
إلى الفريق إبراهيم جابر رئيس لجنة استئنافات لجنة تفكيك تمكين نظام يونيو التاسع والثمانين
إلى مولانا نيقولا عبد المسيح نائب رئيس اللجنة
إلى المهندس صديق يوسف عضو اللجنة
وإلي القحتاوي الثالث الذي راح اسمه علي. عضو اللجنة
تتواتر بيانات التضامن مع لجنة تفكيك نظام يونيو ١٩٨٩. سبق لتجمع المهنين إصدار بيانه يشد من أزر اللجنة. وتتابع التضامن مؤخراً في قرارات مجلس الوزراء الأخير والإعلان السياسي لقوى قحت. ناهيك من ورود وظائف اللجنة في التفكيك كعقيدة حكومية ضمن سياسات رئيس الوزراء الأخيرة المعروفة ب”المبادرة” التي شكل رئيس الوزراء لجنة لتنفيذها.
وبدا لي أن التضامن مع اللجنة أيسر من هذا “التحمي والتدمي” في معنى الإحماء للأمر العصيب مرة واحدة. فأشق ما تواجه اللجنة اليوم هو انكشاف ظهرها لتبخر آليات الاستئناف من فوق سمائها. وبقيت بمفردها في ميدان تفكيك التمكين تلقى أذى لا حدود له من العدو والصليح. فأسعد الثورة المضادة غياب الاستئناف لتصبح المظالم التي أخذتها على اللجنة مادة لتحريض من الدرك الأسفل من نوع: ادي الحلة عيطة وأدى النقارة عصا. فجعلوا منها عنواناً على فساد قحت فساداً فاق على فساد الإنقاذ المزعوم في نظرهم بالطبع. وكانوا الكاسبين من غياب آليات الاستئناف يتمنون ألا تقوم له قائمة لأنه سيكون خصماً عليهم متى ثَبّت لجنة التمكين من قراراتها. أما على ضفة الثورة فقد تحرج خلق كثير من بعض قرارات اللجنة وأكثر علمهم بها من كثافة أدب الثورة المضادة. فدخلوا في ضفورهم. فوقعوا بالقريحة على مطلب رد الأمر كله إلى مفوضية الفساد. بل ذهب كثير منهم إلى أن القضاء هو الأولى بالأمر من ألف إلى ياء. وخرج ناس مستر نايس Mr. Nice الذين اكتشفوا، مرهوبين بصوت الثورة المضادة العالي “ما قتوا سلام حرية عدالة”، أن الديمقراطية نظام بلا أسنان مع أنها، في قول أحدهم، إنها لا تكون بين خائري الركب (democracy is not for the timid)
وتبخر الاستئناف، للأسف، من صنع قحت وحكومتها الانتقالية إلى حد كبير. فاستقال عضوان من اللجنة فيهم صديق يوسف ولم تبدأ اللجنة عملها بعد (وعلمت لاحقاً باستقالة وزير العدل نفسه من وظيفة من وظائفها). ولا نعرف إلى اليوم إن حققت قحت معهما، وعرفت علتهما، وعرضت ذلك على الرأي العام بعد استبدالهما. فاحتلال موقع ثوري أمانة ومغادرته لاعتبارات حزبية نقص معيب. من الجهة الأخرى لا يعرف أحد ما يدور في أروقة القضاء من جهة قيام الدائرة العدلية التي هي من فوق لجنة الاستئناف. كما صمتت قحت وممثلا مجلس السيادة في لجنة الاستئناف، الفريق إبراهيم جابر ومولانا عبد المسيح، سدو دي بطينة ودي بعجينة وفرا من قسورة. ولم تعرض قحت وحكومتها لهذا الغياب الشين لرمزين في سدة الحكم، وعرضحالات المستأنفين تزحم الأفق. وودت لو ساءلت قحت مولانا عبد المسيح التي جاءت إلى موقعها خياراً من خيار طرباً بالمختلف نوعاً وديناً. وبلغنا من العيب في المستأنفين حد استلام ظلاماتهم بواسطة لجنة لم يكتب الله لها أن تجتمع “فنة” خلال عمرها غير القصير لتحيلها للجنة قحت للتعليق. وهذا باب غريب في حسن التخلص.
لا نريد لهذا التحمي والتدمي الأخير تضامناً مع لجنة التفكيك أن تنطبق عليه نكتة الجرسون الذي قال للزبون: “الظاهر عليك ما داير تدفع” حين أكثر من كلمة “شكراً” عند كل خدمة قدمها له. وسيكون إهمالاً بغيضاً من قحت وحكومتها لو كانت “شكر”ها تبييتاً ألا تعين اللجنة، التي تشقى خلال أداء واجبها لغير خطأ منها، حقاً باستكمال حلقات الاستئناف.
فمما يمزق نياط نفسي أن يظل استئناف السفير خالد موسي لقرابة العام بلا وجيع. ولا أريد أن أشخصن الأمر فهو عندي كاتب سوداني من الطبقة الأولى إذا رغبتم عنه في الدبلوماسية أو لم ترغبوا. قدمت له كتابه “سيرة الترحال عبر الأطلنطي” وهو ما لا يكتبه من احتاج إلى رافعة أو تعزيز. لم أطلع بالطبع على “فايله”، ولست في وضع للحكم على مسيرته الوظيفة، ولكن لو أعملت فراستي فأشك أنه احتل أي موقع في الخارجية، من أول تعيينه إلى أن أصبح سفيراً، بغير خدمة ضراعه. وكتبت في ختام مقدمتي له:
“هذا كتاب سائغ. فهو هجومي كما ينبغي للفكر بغير شراسة. وهو دفاعي كما ينبغي للفكر أن يكون بلا بطبطة. فخالد في خفض من الاطلاع والنظر في المسائل التي عالجها بصورة لا تلجئه لا للشراسة ولا للبطبطة. جمله قصيرة شاعرية ميسرة. ويستقوي بالديباجة العربية بلا مَن ولا أذى: “عصماً لنفسه من هذا الدخن”، “استخرج السخائم واستروى الزفرة الحرى”، “ويخرج رحيق القافية سائغاً من بين دم المعنى وفرث الإلهام”. فتأمل.
قولوا له “غور” ولكن ليس قبل الاطلاع على استئنافه وإلا فارقتم جمال التغيير السياسي الذي قيل إنه العزم مع الدماثة. وهذا ما نمني النفس أن يكون الديدن بعد بشارة الخير من تعاقد قحت والحكومة والمهنيون أن يحسنوا إلى مبدأ تفكيك دولة الإنقاذ. أرجوكم ألا تعطوا الثورة اسماً فسوقا.