تقارير

عمرو منير دهب يكتب: موضة البلدان 

nasdahab@gmail.com

رأينا تحت عنوان “الشعوب بوصفها علامات تجارية مسجلة” أنه: “بعيداً عن معايير قياس قوة جوازات السفر رجوعاً إلى قوة كل دولة سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً، يحظى بعض الشعوب باحتمالات أكبر للقبول سواءٌ في فرص العمل بوصف أبنائه مشهورين بالتفاني في العمل الشاق، أو في إمكانية الحصول على سكن أسرع في الأماكن الراقية بوصفهم معروفين بدقة المحافظة على التقاليد الأنيقة في الإقامة والاختلاط، والأخير مثال طريف على كيفية الإفادة من علامة تجارية تخص شعوباً محددة في محيط إقليمي أو دوائر اجتماعية في منطقة بعينها. تتلخص فكرة تبدّل مواقع علامات الشعوب التجارية على سلم التنافسية عالمياً على مدى التاريخ في مفهوم مداولة الأيام بين الناس، وبرغم أن الناس أكثر ارتياحاً إلى التنميط في استقبال طباع وأخلاق الآخرين، فإنهم بموازاة ذلك على استعداد للعدو خلف موضة علامات الشعوب التجارية وهي تتبدّل بفعل بروز مفاجئ لأمة ناشئة أو استعادة مكانة رفيعة لأمة هوت بها الأقدار ردحاً من الزمان، أو حتى من باب مجاراة الموضة المجردة وهي تدفع بهذا الشعب المغمور أو ذاك إلى الظهور بعلامة تجارية مسجلة في أحد المواد الأولية المستخدمة في مستحضرات العناية بالبشرة”.

ذلك عن علامات الشعوب التجارية بما يخلع أثره على الشعب إلى حدّ أن يصبح كالموضة في الرواج والإقبال بفعل علامة تجارية أبدعها فراقت العالم. ماذا عن علامات البلدان التجارية؟ أليست مطابقة لعلامات الشعوب التجارية من حيث الفكرة؟ بالتدقيق، هناك اختلاف طفيف لكنه يستحق النظر بين العلامتين، ومن ثم بين الموضتين، فالأولى متنقلة يحملها الشعب (بعض أبنائه بالتأكيد وليسوا جميعاً) حيثما تنقّل وحلّ في أيٍّ من بقاع العالم، والثانية ثابتة يصعب الوقوف على تفاصيلها دون أن يحلّ العالمُ (بعض أبنائه مجدداً) ضيفاً على البلد الذي يسكنه ذلك الشعب. 

استمراراً في توضيح الفارق بين العلامتين التجاريتين (الموضتين)، أذكِّر بقصة بلدين متجاورين (ما أكثر المثال) قال أحد أبنائهما ممازحاً صديقه من البلد الآخر: “أعلم أنكم تحبون بلدنا أكثر مما تحبوننا نحن”.

الولايات المتحدة الأمريكية مثال آخر يصحّ أن يوضِّح الفرق بين العلامتين من وجهة مختلفة، فالبلد حديث النشوء نسبياً أصبح القوة العظمى في العالم، وهو أمر لم يكن ممكناً بتلك السرعة لولا أن أبناءه المؤسسين ينحدرون من أمم (بلدان) عريقة. صحيح أن المهاجرين قد شكّلوا ملامح أخرى لشعب جديد، استوعب لاحقاً أعراقاً متباينة (متضاربة؟)، ولكن الشعوب المهاجرة استلهم كلٌّ منها تاريخه بشكل مباشر فصنعت مجتمعة الأسطورة الجديدة (التي سيختلف العالم لاحقاً في تقديرها). المهم في بيان الفارق بين العلامتين (الشعب والبلد) مع أمريكا أن من ينظر إلى أي قطاع من أبناء الولايات المتحدة في أية رقعة من العالم لن يقع بالضرورة على سرّ فريد يُلمح إلى أن هؤلاء هم الذين يمتلكون/يصنعون البلد الأكثر تسيّداً للعالم. وبرغم أن هذه الملاحظة تنطبق في الغالب على كل أبناء الشعوب خارج بلادها، فإن الحال مع أمريكا أكثر خصوصية لأننا هنا إزاء القوة التي كادت (أو هي بالفعل) انفردت باحتلال قيادة العالم إذا كان لا مناص من تنصيب بلد بعينه لهذه المهمة (الشرف/التهمة).

لا شيء أظهر لبيان المقصود من موضة البلدان مثل القِبلات السياحية التي يروّج لها الوجدانُ الشعبي وشركاتُ السياحة على السواء (في رقعة جغرافية بعينها أو على إطلاق خريطة العالم). هنا تبرز الكثير من البلدان في أوروبا بوصفها قبلات سياحية متكررة، لكن حتى تلك البلدان المتكررة تتبادل في ما بينها أدوار الريادة السياحية بصورة غير خافية. 

غير أن الأظهر على نطاق معيار الوجهة السياحية (في تقييم البلد الموضة) هو في الواقع ما يقع خارج نطاق الغرب، سواء مع دول لا تعدم العراقة والتقدّم التقني البارز كبعض دول الشرق الأقصى (اليابان، الصين، كوريا الجنوبية) أو أخرى تبرز بشكل لافت كوجهة سياحية آسرة بفعل نهضة اقتصادية مفاجئة وطبيعة مُهّدت السبل إلى فض أسرار سحرها بفعل تلك النهضة، وستبرز ماليزيا هنا باعتبارها مثالاً رائعاً على هذا الصعيد.   

العالم، بل التاريخ، يعج بالأمثلة في هذا السياق. أليست تركيا مثلاً حالة لا تعدم الخصوصية في نطاق حديثنا هذا؟ إنْ بالنسبة إلى العرب بصفة خاصة أو العالم على إطلاقه. ظلت تركيا حاضرة في وجدان العرب بصورة متميزة عبر القرون، وخصّها الجاحظ برسالة شهيرة، وإن تكن الرسالة أكثر قابلية وصلاحية للإحالة إليها في ما يخص “الشعوب بوصفها علامة تجارية مسجلة”. 

تقلّبت تركيا في أنظار العالم عامة على امتداد التاريخ، وكانت أشدّ تقلّباً في نظر العرب ربما، فمن أرض يقطنها قوم أولو بأس شديد في الحروب (حلفاء أو خصوماً)، إلى مستعمر جبّار، ثم حديثاً إلى قوة اقتصادية يمكن الإفادة منها/الشراكة معها، وأخيراً إلى قِبلة للجمال والأناقة تستحق المتابعة اللصيقة عبر وسائل الإعلام – على اختلاف موادها – والزيارةَ من بعدُ للتحقق من ذلك الإبهار. ولن تخيّب تركيا ظنون سياحها من مختلف الوجهات والأعراق، بل تظل قادرة على إدهاشهم بطريقة أو أخرى. هكذا يحتفظ ذلك البلد بمكانة فريدة في سياقنا هذا بوصفه موضة قابلة للتجدّد من حين إلى آخر كلما أحست بأن نجومها في هذه السماء أو تلك توشك على الأفول. ولا أزال أذكر صديقاً مصرياً زار تركيا منتصف التسعينيات الماضية فعاد بانطباع أن ما رآه هناك لم يكن كافياً لإدهاشه بحسب ما تهيّأ، وعزا ذلك إلى أنهم في مصر ربما أصبحوا (حينها) أكثر تقدّماً في الصناعة وغيرها من ذي قبل حين كانت تركيا والأتراك دهشة مطلقة في أعينهم.

أطلس العالم وقوائم شركات السياحة تعج بأسماء بلدان لا يسلم أيّ منها من التأرجح على قائمة “الأكثر جذباً” بدرجة أو أخرى. وكلمة “الأيام دول” ليست سوى مرادف أكثر فخامة لتعبير “موضة البلدان”، وذلك باستيعاب التفسير الأعمق لما يداوله الخالق بين الناس ليشمل كل شيء حتى قابلية البلد لأن يكون قدوة يتبعها العالم في هذا المجال وذاك مهما يَبْدُ هامشياً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى