عمرو منير دهب يكتب: أمريكا والموضة
nasdahab@gmail.com
في “انهيار العولمة وإعادة اختراع العالم”، النسخة العربية من كتاب “The Collapse of Globalism and the Reinvention of the World” لجون رالستون سول، يرِد ما يلي: “ظهرت العولمة إلى الوجود في عقد السبعينيات، كأنما جاءت من لا مكان. ومع ذلك فقد بدت كاملة النضج، وكأنما ترتدي ثوباً كامل الأوصاف والمعاني. يومها كان دعاتها والمؤمنون بها يتحلون بقدر لا يخفى من الجرأة، ويطرحون أفكارهم من منظور مدرسة معيَّنة من مدارس الاقتصاد، قائلين إن المجتمعات في طول العالم وعرضه من شأنها أن تتجه إلى مسارات إيجابية مستجدة الطابع ومتشابكة الاتجاهات. وهذه الرؤية ما لبثت أن تحولت لتصبح سياسات وقوانين على مدار السنوات العشرين، التي استغرقها عقدا الثمانينيات والتسعينيات، مدفوعة بقوة من الحتمية التي ذاع صيتها”.
ظهور العولمة الذي تبدأ به الفقرة المقتطفة عن الكتاب المذكور، وانهيارُها كما يبشِّر عنوان الكتاب، يشيران إلى أن العولمة موضة كما سنقف على ذلك بتفصيل في موضع لاحق من هذا الكتاب. ولكن ما يعنينا في هذا المقام هو السؤال: هل أمريكا مسؤولة عن العولمة؟ والإجابة التي لا يجرؤ أنصار العولمة على التصريح بها، وفي الوقت نفسه يصعب على أيٍّ من الناس – مهما يكن موقفه – التصريحُ بعكسها، هي: نعم، وربما نعم كبيرة إلى حدّ أن البعض لا يرى العولمة سوى مرادفاً للأْمركة، أي جعل العالم يسير على النمط الأمريكي في العيش متوهماً أنه نمط قياسي عالمي/كوني.
بافتراض ثبوت صحة “تورّط” الولايات المتحدة في تهمة اختراع العولمة، ولا أظن أن أمريكا نفسها تتبرأ من التهمة قدرَ ما تفخر بها على نقيض ما يخاله كثير من خصومها، فإن الولايات المتحدة تبعاً لذلك تغدو متورطة في بدعة الموضة – على إطلاق مدلول المصطلح – من أخمص قدمها إلى رأسها، وهذه بدورها تهمة لا تبدو أمريكا حريصة على نفيها قدرَ ما تراها – على النقيض – شرفاً موجباً للفخر.
نتجاوز كالعادة مع هذا السياق الأزياءَ وملحقاتها إلى كل ما هو قابل للتغيير من أنماط العيش في مرادنا بالموضة، وهو تجاوُز يتيح للولايات المتحدة مزيداً من التربّع على عرش الموضة، تربّع يبدأ من سيرة تشكٌّل الدولة من المهاجرين الأوائل المتشبثين بالرغبة في التغيير إلى حدود المغامرة القصوى في الحياة، ويستمر (التربّع) بتوالي الهجرات ونهوض أركان الحياة في الدولة العظمى على ثقافات متجددة حتى إذا كانت دائمة الغليان إلى حدّ الانصهار داخل البوتقة الشهيرة.
بالعودة إلى صناعة الأزياء بوصفها مرادف الموضة الأكثر شيوعاً، نقرأ مع ويكيبيديا الإنجليزية: “الولايات المتحدة هي واحدة من الدول الرائدة في صناعة تصميم الأزياء، جنباً إلى جنب مع فرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة وألمانيا واليابان”، وإذا كانت فرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة وألمانيا (الأخيرة إلى حد ما) مشهورة على صعيد موضة الأزياء وملحقاتها عالمياً، فإنه ليس من السهل تمرير ذكر اليابان في هذا السياق بوصفها مروّجة لصرعة عالمية في الأزياء وليس لأيٍّ من أجهزة الذكاء الاصطناعي، وربما كان ذلك مما دعا الموسوعة الشعبية المتجددة كل ثانية إلى وسم المقالة (المقتبس عنها هذا الكلام) بما يفيد حاجتها إلى مصادر موثقة. على كلٍّ، تستمر ويكيبيديا الإنجليزية: “مدينة نيويورك ولوس أنجلوس هما مركزَي صناعة الأزياء الأمريكية، وهما تعتبران من عواصم الأزياء الرائدة. تعتبر مدينة نيويورك عموماً واحدة من عواصم الأزياء العالمية “الأربعة الكبار”، إلى جانب باريس وميلان ولندن”.
وقد رأينا في “غرفة نومك في العولمة” أن “نيويورك لا تكتفي بصيتها القديم كعاصمة للعالم بل تحب أن تضيف إلى ذلك كُنية “عاصمة العولمة”، أو لعلها ترى اللقب جديراً بأن ينسحب إليها من تلقاء نفسه. ولنيويورك في ذلك حق لا يمكن جُحوده باستمرار، فما دامت أمريكا هي عرّاب العولمة فأكبر مدنها سطوة حريٌّ بأن يكون عاصمة للفكرة الجهنمية التي أضحت واقعاً (افتراضياً؟) اكتسح حياتنا فقلبها رأساً على عقب”.
وكما أشرنا مراراً في أكثر من مقام، يبدو الأجدر بالقراءة في سيرة أمريكا مع الموضة أنها لا تتورع عن إطلاق موضة جديدة في أيٍّ من شؤون الحياة ليس عن طريق الابتداع الأصيل بالضرورة وإنما النقل الذي لا يستنكف إظهار معالم الأصل المنقول عنه، ففي “غرفة نومك في العولمة” كذلك رأينا أن “العم سام يعرف كيف يسطو على مطابخ الآخرين ليعيد تقديم وصفاتها إلى الناس بنكهات عالمية قياسية لا تتحرّج أن تغيِّر مقاديرها شيئاً ما بحسب ما تقتضيه ذائقة كل شعب مع الاحتفاظ بالمعالم الأساسية للوجبة كما هي في الثقافة الأمريكية المعولمة بعد السطو عليها من مطبخ في إيطاليا أو فرنسا أو الهند أو المكسيك. ورأيْنا من قبل أن الهامبورغر نفسه مشتق اسماً من المدينة الألمانية الشهيرة هامبورغ وليس من أية مدينة أمريكية أخرى، ولكن أمريكا لا ترى بأساً بأن تبقي على الاسم كما هو، بل لعلها تصر على أن لا تغير الاسم المشير إلى أصل الأكلة تذكيراً للعالم بأنه كله يغدو ملكاً لها مع تعديلات طفيفة في الوصفات وقدرات لا حدود لها على الاجتراء”.
وفي “غرفة نومك في العولمة” أيضاً رأينا أن نيويورك “لا تبدو… مهتمة بمحاكاة أحد على طريق العولمة أكثر من سيرة أمريكا الأم في اقتباس أفضل ما لدى الآخرين وإعادة إنتاجه على مقاس ومذاق قياسي موحّد يناسب بني آدم حيث كانوا على اختلاف أشكالهم وألوانهم، وهذه ليست هينة في باب السطو على حقوق الملكية الفكرية والمادية للآخرين. ولكن كيف لنا أن نحاسب أمريكا والعالمُ ينتظر بشغف النسخة القياسية للمنتج المستباح وقد عز عليه استهلاك الأصل من قبل… أو حتى الاطِّلاع عليه بالقدر الكافي من الوضوح؟”.
أمريكا إذن في صدارة العالم على طريق الموضة في مختلف الصعد، ولكن ليس بالضرورة عبر أصالة الابتداع، وإنما من خلال براعة ترويج الموضة سواءٌ أكانت جديدة بالكامل أو قديمة مستحدثة أو حتى منتحلة.