عادل الباز يكتب: حكايتي مع حمدنا الله (3)
فيما أرى
1
فضاء الأمكنة هو الوقود الحيوي لأفكارحمدنا الله، وهو الذي شكّل جوهر انسانيته ومنح روحه طلاقتها وهو الذي وسم كل حركاته وسكناته وظلل كل حياته. كنت قد لاحظت أثر الأمكنة فى نفسه منذ زمن بعيد حين كنا نتجول فى أزقة القاهرة ومقاهيها ودورها ومكتباتها ومنتدياتها تسعينيات القرن الماضي. كان يتذكر المكان أحداثه وشخوصه فينتعش وجدانه وتتدفق أمواج من الذكريات متتابعة ولا يكاد يتوقف حين يبدأ بالتذكر.
2
قضيت معه أياماً قليلة بالقاهرة عرفت فيها القاهرة الأخرى التي لم أعرفها من قبل.
نبدأ يومنا بصلاة الصبح فى الحسين ثم نمضى إلى مقاهي (خان الخليلي) وهناك تتفتح طاقات الذكريات وتتدفق الحكايا، هذا هو (خان الخليلي)، تماماً كما وصفه نجيب محفوظ فى رائعته التي تحمل الاسم نفسه، (شارع طويل، عِمارات مُربعة القوائم تصِل بينها ممرات جانبية تقاطع الشارع الأصليّ، وتزحم جوانب الممرات ، والشارع نفسه، بالحوانيت فدُكان للساعاتي و سواه لخطاط وآخر للشاي، ورابع للسجاد وخامس للتُحف وهكذا. بينما تقع هُنا وهناك مقاهي لا يزيد حجم الواحدة منها عن حجم الحانوت الصغير، وقدّ جلسَ الصنَّاع أمام الدكاكين يكبون على فنونهم في صبر.).
يحكي حمدنا الله انهم حينما كانوا طلابا بالأزهر الشريف كانوا يهربون من ضيق القاعات والمحاضرات المملة إلى فضاءات هذا الشارع وعلى مقربة منه مقاهى الفيشاوي الشهيرةحيث يقضون فيها أغلب أوقات فراغهم ، ويقول لي حمدنا الله: عمر هذا المكان اكثر 600 عام وهو قد تغير كثيراً ولم يعد ذاته الشارع الذي عرفوه في ثمانينيات القرن الماضي، كانت المقاهي وخاصة الفيشاوي تعج بالأدباء والفنانين والرسامين، ولكن الآن لا تجد فيها سوى العطالى والمتسكعين.
3
خلف هذا المسجد (الحسين) تقع مكتبة الحلبي وهي المكتبة التي كان يمضي فيها جل وقته، كما قال قبل أن يتعرف على مكتبة القاهرة القديمة التي أعاد فيها اكتشاف الآلاف من الوثائق السودانية المدفونة هناك والتى لم تمتد إليها أيدي الباحثين والمثقفين السودانيين الغرودنيين الشغوفين بمكتبة درم بانجلترا، باعتبارها المكتبة التي تحوي أغلب وثائق التاريخ السوداني. فتح حمدنا الله أعين الباحثين على كنوز مكتبات القاهرة ليعثروا على بعضٍ من وثائق تاريخ السودان الحديث على مقربة منهم في حي (عابدين) وقلعة (محمد علي).
4
كان قدري فى تلك الأيام أن أجوب مع حمدنا الله كثيراً من الطرقات والحارات، و الأماكن.. (والأماكن كلها مشتاقة لك..
كل شيء حولي يذكرني بشيء..
حتى صوتي وضحكتي لك، فيها شيء
لو تغيب الدنيا عمرك ما تغيب
شوف حالي آه من تطري علي..
الأماكن.. الأماكن.. كلها مشتاقة لك).
وكنا حين نمر بمكان يألفه يتفقده وكأنه يزوره لأول مرة، تنشأ بينه والأمكنة علاقة محبة غريبة فيتذكر الكتب التي قرأها فيها والوثائق التي عثر عليها وغيرت مما كان يعتبره حقائق فى تاريخ السودان، هنا بالتحديد (مكتبة القاهرة القديمة) اكتشف أن الصحافة السودانية لم تبدأ في تاريخ 1903 إنما في 1898 ، حين تتبع خيط صحفي سوداني عمل فى الأهرام وهو محمود القباني، وهنا أيضاً عثر على منشورات جمعية الاتحاد السرية. وهنا قرأ أغلب ما كتبه العقاد، وفي هذه المكتبة بالذات (القاهرة القديمة). تعرّف على محمود شاكر الذي كان يرتادها بانتظام.
طيلة تطوافي على الأماكن العديدة بالقاهرة مع حمدنا الله، كان كثيراً ما يحدثنى عن العقاد ومحمود شاكر من بين مئات من الفكرين والكتاب الذين عاصرهم خلال إقامته فى القاهرة (خمس سنوات) ، فقد قرأ جُلَّ ما كتبه الأديبان . وحين تتبعت قصتهما معه لاحقاً أدركت لماذا الاهتمام بهما في كتاباته و خلال محاضراته المتعددة وأحاديثه عنهما. فليسمح لي القراء في الحلقة القادمة تتبع أثر هذين المفكرين على بروف حمدنا الله وعلى منهجه النقدي الذي تبناه بعد ذلك، لقد بدا لي أثر العقاد واضحاً، كما سنرى ، لا في تفكيره وحياته فحسب، بل في مماته أيضاً، إذ تكاد وصيته التي تركها (أعني حمدنا الله ) تُقارب تلك التي تركها العقاد فى أبياته الشهيرة التى نعى فيها نفسه:
(إذا شيعتموني يوم تأتي منيتي
وقالوا أراح الله ذاك المعذبا
فلا تحملوني صامتين إلى الثرى
فإني أخاف القبر أن يتهيبا
ولا تذكروني بالبكاء وإنما
أعيدوا على سمعي القصيد فأطربا.).
لقد أسمع خالد فتح الرحمن القصيد لحمدنا الله وياله من قصيد، فهو طرب الآن في عليين بجنة عرضها السموات والأرض بإذن الله.
نواصل.