تقارير

عمرو منير دهب يكتب: ملعقة من الشهرة

nasdahab@gmail.com

لا أظن أن كاتباً وُلد وفي فمه ملعقة من الشهرة على غرار ملعقة الذهب الشهيرة التي يُعيَّر بها من تمرّغ في النعمة منذ لحظة خروجه إلى هذا العالم، فحتى الذين مُهِّد لهم الطريق من قِبل وُسطاء يُعنــَـون بأمرهم لم يكن ذلك التمهيد ضامناً للنجاح والشهرة وإنما دافعاً لهما ومعيناً على تحقيقهما في أفضل أحوال الإفادة من ذاك الصنيع.

ولكن ما المشكلة إذا صحّ أن كاتباً كان من الحظ النادر (المستحيل؟) بحيث يُولد وفي فمه ملعقة من الشهرة؟ فسهولة الحصول على شيء لا يُفترَض أن تكون نقيصة لذاتها، ولذلك ظللتُ أنظر بتحفــُّـظ إلى المشاهير الذين يمنــُّـون على الجماهير – تعريضاً ببعض زملائهم – بأنهم صعدوا سلُّم النجاح عتبة عتبة، فمكابدة الوصول إلى قمة المجد داعية إلى الإعجاب ولكنها في الوقت ذاته باعثة على القلق (والحرج؟) إذا كان ثمة من يملك مفتاح المصعد المجاور ليعتلي القمة بكبسة زر.

انصراف الناس إلى تفضيل أحد النموذجين (السلّم أو المصعد) على الآخر في اعتلاء قمم النجاح والمجد مرتبط بمعايير كل زمان وبالبضاعة التي يسوِّق لها الطامح إلى الشهرة، ففي الحقب الأرستقراطية من عمر الزمان في أيٍّ من المجتمعات لم يكن غريباً أن ينصرف الناس عن نموذج السلّم ذي العتبات الكثيرة لصالح فكرة المصعد وكبسات أزراره المعدودة حتى قبل اختراع الأخير، ولأن الديموقراطية فكرة حديثة جداً – من حيث التطبيق العريض – قياساً إلى عمر الحضارة البشرية الممتد فإن تمجيد الناس لفكرة الكفاح من أجل النجاح هي مسألة حديثة إلى حد بعيد في كل مجتمع بقدر حداثة ذلك المجتمع في تقبُّل الديموقراطية ومفاهيمها الاجتماعية والثقافية وتغلغلها في نسيجه.

الغريب أن المجتمعات بعد أن تثور على النمط الذي كان سائداً مما يتيح تداول النعمة والمجد في حلقة ضيقة من الناس (اصطُلِح على الإشارة إليها بالنخبة) تعود فتتداول أشكال النعمة والمجد الجديدة في حلقات ضيقة مستحدثة، فلا تكون بذلك قد ألغت مفهوم النخبة وإنما حوّلته من شكل إلى آخر متيحة لطائفة جديدة من الجماهير الانتفاع بالعرض المبتكر – للنعمة والمجد – الذي يجب أن يظل حصرياً فيما يبدو.

وهكذا يبدو الناس في حاجة دائمة إلى الصراع، أو إنهم بالفعل في حالة فطرية مستمرة من الصراع بحيث يجب أن يتوفر في الحياة – على أي صعيد – نموذجان على الأقل يتصارع الناس حولهما قبولاً ورفضاً، وعندما يوشك أحد النموذجين أن يُطاح به في أعقاب ثورة من قبيل ما فإن المجتمع سرعان ما يعود إلى بعث ذلك النموذج في شكل جديد من أجل استكمال الصراع الذي لا يعرف عنه الإنسان أفضل من أن وجوده (الصراع) حتمي لاستمرار الحياة.

في مرحلة ليست بعيدة من عمر الأدب العربي (المصري تحديداً) وبُعيد بعثة الشعر الكلاسيكي في العصر الحديث على قرائح شعراء من طراز محمود سامي البارودي طفق الناس يعقدون ثنائية أحمد شوقي وحافظ إبراهيم. وعلى الرغم من أن العهد السياسي حينها في مصر كان ملكياً، فإن هوى الجماهير كان أميل إلى الشاعر الذي نبت وترعرع في أرضها على حساب الآخر الذي رموه بوصمة الملعقة الذهبية، وهكذا ظل حافظ قريباً إلى قلوب الناس رغم الفارق الفني الكبير لصالح شوقي الذي كان بعيداً عن العامة ليس بأثر ملعقة الذهب في قصر الخديوي فحسب وإنما أيضاً بتداعيات الأصول غير المصرية التي اشتبكت في نسبه.

غير أن سيرة شوقي على وجه الخصوص تبيِّن مدى حساسية الناس مع ملاعق الذهب تحديداً، فأصوله غير المصرية قلّما كانت تضايق مناوئيه مثلما كانت تفعل ملعقة الذهب التي فرضت عليه – كما كان يرى أولئك المناوئون – قدراً واضحاً من الميل عن الشعب إلى القصر الذي ترعرع في كنفه، ولم يتسن لشوقي منزلاً مريحاً في قلوب الجماهير إلا بعد أن دغدغ مشاعرهم بمغازلة أحلامهم بشاعريته الفريدة – دون أن يتوحّد مع تلك الأحلام بالضرورة – خصوصاً بعد عودته من المنفى كما كان يرى بعض النقاد.

سيرة شوقي وحافظ مع الشهرة والحظوة وملاعقهما الذهبية تبيِّن أن المسألة ليست مرتبطة بالحقبة الزمنية سياسياً فحسب وإنما بمن تــُـوجَّه إليه البضاعة موضع النقد من الكلام أو غيره، فإذا كان حلم الشاعر أن يصبح محظيّ الجماهير فلن يحتاج إلى أكثر من ملعقة من حديد، وربما إلى أصابعه مجردة لا غير. أما إذا كان حلمه أن يغدو شاعر البلاط فملعقة الذهب ضرورة، وقبلها بضعة عهود إلى الوراء من عمر الزمان كان خلالها الجمهور هو البلاط ابتداءً.

تتحقق شهرة الواحد كمّاً حين يزداد عدد من يعرفونه ونوعاً حين يزداد عمق معرفتهم به، وهذا ما لا تضمنه على أية حال ملعقة من ذهب يُولد النجم فيجدها محشورة في فمه (كناية عن الثراء بمفعول الوراثة أو الدعم بدافع السطوة).

إذا كان لا بد للشهرة من ضامن سحري فهو ما يحشره الحظ السعيد (كناية عن تضافر عوامل النجاح) في أفواه المشاهير من ملاعق الذهب أو أيٍّ من المعادن النفيسة، بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية وموقعهم من عمر الزمان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى