النبوغ على كِبَر
عمرو منير دهب
nasdahab@gmail.com
على اختلاف أقوال النقاد في السبب الذي لُقِّب من أجله النابغة الذبياني بذلك، فإن أحد أشهر الآراء على هذا الصعيد أنه نبغ في الشعر فجأة، وفي قولٍ أكثر تحديداً أنه لم يقل الشعر إلّا بعد أن جاوز الأربعين من عمره.
وإذا كان الشعور بالغبطة والزهو مسألة اعتيادية للنجوم في أي مجال، فلن يكون غريباً أن نستنتج أن نابغة بني ذبيان كان مغتبطاً لنبوغه ذاك (مهما يكن سبب التسمية) وكان مزهوّاً به، ولكن ما لا يمكن الوقوف عليه – بطبيعة المسألة والفسحة الزمانية السحيقة التي تفصلنا عنها – هو التأكد من شعور الرجل إزاء تأخّر نبوغه كشاعر إلى ذلك المدى، إذا صحّ أن هذا هو سبب التسمية.
النبوغ الذي لا يتأخر رائع مثل أي شيء يأتي في وقته في الحياة، والمعنِي بوقته هنا ما يوافق توقّع الطامح إلى النبوغ والشهرة من الزمان، فإذا وجد أحدهم نفسه فريداً بين أقرانه في عمر باكر (كالطفولة والصبا أو حتى بواكير الشباب) فذلك مما يبعث على سعادة كبيرة لا ريب ولكنها ليست استثنائية كما يخالها من يتأخر في الظهور، فمن يعتاد على أمر باكراً يظنه كَسْبَه الذي دان له عن استحقاق ربّاني فطري تماماً كالذي يُولد وفي فمه ملعقة من ذهب.
بالرجوع إلى النابغة الذبياني، وبمعاودة افتراض أن سبب اللقب هو النبوغ على كبر، يصعب مجدداً الوقوف على تفاصيل تتعلق بأسئلة من قبيل: هل كانت للنابغة محاولات جادة لم يُكتب لها النجاح إلّا متأخراً أم أنه لم يشرع في المحاولة إلّا متأخراً؟ وظاهر الاستقراء الذي آثرت الجماهير ترويجه لتعظيم الظاهرة أن الرجل شرع في المحاولة متأخراً، فمن غير ذلك كان من شأن أية محاولات فاشلة أو مهمّشة من قبلُ أن تخطف قدراً من بريق الظهور ليبدو أقل مدعاة إلى الدهشة وقد سبقته مقدِّمات فضحت مفاجأته حتى إذا لم تحظ بانتباه ذي بال.
ولكن من ينبغ ويظهر على كبر لا يسعد لنبوغه وظهوره سعادة متعقِّلة كما يغري التخيُّل رجوعاً إلى طبيعة المرحلة العمرية، فبتجاوز النابغة الذبياني – للصعوبة المشار إليها آنفاً فيما يتعلق بالوقوف على تفاصيل مشاعره وظاهرته حينها – نجد أن “العجايز” من نوابغ هذه الأيام (إشارة إلى الذين تطرق النجومية من أي سماء أبوابهم متأخرة) لا يسعدون بالظهور المستبطَأ فحسب وإنما يدمنون ضجيجه وبريقه تماماً كما يفعل أقرانهم من النجوم الشباب. وقد يبدو ذلك طبيعياً إذا نظرنا إليه من وجهة ثانية، فالعجوز أيّاً كان ينتابه قلق متعاظم من إهمال الناس بعد أن يمسي على هامش الحياة، وعليه فإنه أكثر توقاً إلى الأضواء التي لا تعيده إلى دائرة اهتمام معارفه فحسب وإنما إلى دائرة أوسع وأعظم مؤلفة من الجماهير المعنيّة بموضوع نجوميّته، وفي ذلك ضمان رائع لتبديد بعض أقسى هواجس الكبر عوضاً عن البقاء تحت رحمة ذوي القلوب العطوفة من المقرّبين المتبرِّعين بالمستقطع من وقتهم للبقاء إلى جانب عجوز غير مشهور.
ولكن النابغة الشاب قد يكبر فيصاحب كِبَرَه خفوتٌ في بريق نبوغه/نجوميته فيخضع بذلك لشعور متناقض من الحرمان والإشباع. حرمانه مضاعَف لأنه افتقد شيئاً جرّبه وذاق حلاوته، وإشباعه متحقِّق لأنه جرّب واستحلى مقابل غيره ممن لا يزال في انتظار تجربة كالحلم قد لا تتحقق أبداً.
وإذا كان الاستقراء يغري بتوقُّع أنّ من ينبغ ويظهر صغيراً هو غالباً في القبضة المُحكَمة لمن دفع به من صُنّاع النجوم ولا يجرؤ على تجاوز حسن ظن جماهيره، مقابل الجرأة التي يُفترَض أن يتّسم بها النابغة العجوز على الصعيد ذاته بحكم الخبرة والثقة، فإن الواقع قد يكون معكوساً تماماً بحيث تفضي خبرة العجوز والسكينة التي يسبغها الكبر إلى ظهور لا يميل إلى المناوشة ويؤثر عليها الحكمة مختزلة في وسطيّة الرأي والفعل، بينما يدفع جموح الصبا والشباب النجم إلى المغامرة بعيداً عن الخوف سواء من عواقب المغامرة مجرّدة أو آثارها على نجوميّة لم يَشقَ كثيراً في بلوغها ولا يعرف على وجه اليقين طعم الحياة من دونها.