رأي

اقتصاد الحرب والفساد المؤسسي: دروس من دول واجهت الانهيار ثم أعادت البناء

محمد كمير

خلال فترات الحروب، لا يتعرض الاقتصاد فقط للتدمير المادي، بل يصبح أكثر هشاشة أمام الفساد، خاصة عندما تكون مؤسسات الدولة  عاجزة عن الرقابة. في مثل هذه السياقات، تختفي الحدود بين المال العام والخاص، وتتحول الموازنات إلى أدوات طوارئ غير خاضعة للمساءلة، وتُبرَّر التجاوزات باسم الأمن أو الضرورة. تجارب دول عديدة أظهرت أن الفساد في زمن الحرب لا يكون عرضًا جانبيًا، بل يتحول إلى نظام اقتصادي موازٍ يطيل أمد الصراع ويُضعف فرص التعافي.

في البوسنة والهرسك خلال حرب التسعينيات، تَشكَّل اقتصاد حرب قائم على تهريب السلاح والوقود والمساعدات الإنسانية، وكانت مؤسسات رسمية وشبه رسمية طرفًا في هذه الشبكات. بعد انتهاء الحرب، وُرثت دولة ضعيفة بديون مرتفعة وثقة شبه معدومة في الجهاز الحكومي. لم يبدأ التصحيح إلا بعد تدخل دولي مشروط، فربطت المساعدات بإصلاحات مالية، وأُنشئت أجهزة تدقيق مستقلة، وتمت محاكمات لعدد من المسؤولين، وإن كانت غير كافية في بداياتها. احتاجت البلاد سنوات طويلة قبل أن تستعيد حدًا أدنى من الانضباط المالي.

أما ليبيريا وسيراليون، فقد مثّلتا نموذجًا أكثر قسوة لاقتصاد الحرب، حيث سيطرت شبكات داخل الدولة وخارجها على الموارد الطبيعية، خصوصًا الألماس والأخشاب، واستخدمت العائدات لتمويل الصراع. بعد نهاية الحروب الأهلية، كانت الخزائن فارغة والمؤسسات مخترقة بالكامل. المعالجة بدأت بإعادة هيكلة شاملة للدولة، شملت وضع الموارد الطبيعية تحت رقابة دولية مؤقتة، وإلغاء الامتيازات الفاسدة، وإنشاء مفوضيات لمكافحة الفساد، إلى جانب محاكم خاصة وعمليات “تدقيق جنائي” في العقود التي أُبرمت أثناء الحرب. المحاسبة لم تكن كاملة، لكنها أرسلت إشارات واضحة بأن زمن الإفلات من العقاب قد انتهى.

في رواندا، وعلى الرغم من فداحة الإبادة الجماعية، كان التعامل مع الفساد بعد الحرب أكثر حسمًا. أدركت القيادة الجديدة أن أي تساهل مع الفساد سيعيد إنتاج العنف. لذلك، أُعيد بناء مؤسسات الدولة على أساس الانضباط والشفافية، وتم تبسيط الإجراءات المالية، وربط الترقية الوظيفية بالأداء، وفرض رقابة صارمة على المال العام. لم تقتصر المحاسبة على القوانين، بل أصبحت جزءًا من الثقافة السياسية، وهو ما انعكس في تحسن مؤشرات الحوكمة والنمو خلال عقدين فقط.

تجربة كولومبيا تُظهر مسارًا مختلفًا، حيث استمرت الحرب لفترة طويلة بالتوازي مع وجود دولة قائمة. خلال الصراع، تداخلت مؤسسات محلية مع شبكات تهريب ومجموعات مسلحة، ما أضعف الثقة في الدولة. بعد اتفاق السلام، ركزت الحكومة على إصلاحات تدريجية، شملت الشفافية في الإنفاق العام، ومراجعة العقود العسكرية، وتعزيز استقلال القضاء. لم تكن النتائج فورية، لكن ربط السلام بالتنمية والمساءلة ساعد على تقليص اقتصاد الظل المرتبط بالحرب.

القاسم المشترك بين هذه التجارب أن الفساد أثناء الحروب يزدهر عندما تغيب الشفافية وتُعطَّل المحاسبة، وأن نهايته لا تأتي تلقائيًا بانتهاء القتال. التصحيح الحقيقي يبدأ فقط عندما تُعاد هيكلة مؤسسات الدولة، ويُفتح ملف اقتصاد الحرب بشجاعة، وتُراجع العقود والامتيازات التي نشأت في الظل. المحاسبة، حتى وإن كانت تدريجية أو جزئية، تظل شرطًا أساسيًا لاستعادة الثقة وجذب الاستثمار وإعادة تشغيل الاقتصاد.

الدرس الأهم أن تجاهل فساد الحرب تحت شعار “الاستقرار” يؤدي إلى سلام هش واقتصاد مشلول، بينما المواجهة المؤسسية للفساد، عبر الإصلاحات والعدالة والشفافية، تفتح الطريق أمام تعافٍ حقيقي ومستدام. فالدول التي تجرأت على محاسبة نفسها بعد الحرب دفعت ثمنًا سياسيًا في البداية، لكنها كسبت في النهاية دولة أكثر صلابة واقتصادًا أقل عرضة للانهيار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى