رأي

بعضٌ من حكاية الكَدِيسَة

دكتور عثمان أبوزيد

الكديسة اسم للهرة في عامية أهل السودان، والمذكر كَدِيس. ولعل الأصل نوبي أو تركي. وعند الجاحظ في كتاب الحيوان لفظ السِنّور وذكر من صفات السنانير أنها طيبة الفم، وأن عليها من المحبة والإلف والأنس والدنو، ما ليس مع الكلب ولا مع الحمام، ولا مع الدجاج، ولا مع شيء مما يعايش الناس.

ومن صفاتها أن الحيات تخافها، وأن الفيل يفزع من السنور فزعًا شديدًا. وجيفة السنّور منتنة ـ كما يذكر كتاب الحيوان ـ قالوا: لما مات القصبي رُجم بالسنانير الميتة…

قرأت قبل يومين عن “تكتيك القطة الميتة” في الإعلام السياسي والعسكري حيث يُطلق خبر صادم أو فاضح أو مثير للجدل عمدًا لصرف انتباه الإعلام وتشتيت أذهان الجمهور عن قضية أو فشل أكثر ضررًا. صاغ هذا التكتيك لينتون كروسبي، وكأنه إلقاء “قطة ميتة” على مائدة طعام والناس يأكلون مما يُجبر الجميع على الانصراف عن الأكل، والتركيز على ذلك المشهد بدلًا من الانشغال بالمشكلة الأساسية.

ألا ترون هذه الأيام ونحن نتابع انتصارات جيشنا وانكسارات التمرد، كيف تعمد غرف صناعة الشائعات إلى إطلاق خبر صادم يصرف الأنظار عن أحداث الساعة؟!

ويسمّي (الخوَّاجة) ذلك الفعل الدعائي باسم القطط الميتة، وليس الكلاب الميتة، فالقوم يحبون الكلاب حبًا جمًا مثل حبنا للكدايس أو أشد.

أما تفضيل القطط (الكدايس) عند المسلمين فهو نابع من الدين، فقد وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بالطوافين عليكم والطوافات. وفي صحيح البخاري: “دخلت امرأة ممن كان قبلكم النار في هرة ربطتها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تصيب من خشاش الأرض”. والهرة وصفها الجاحظ أيضا بأنها من الخلق الذي يؤثر على نفسه، يُلقَى إليها بالشيء الطيب وهي جائعة، فلا تزال ممسكة على جوعها حتى يقبل ولدها فيأكل… وهذا من علامات الرحمة في هذا الحيوان.

واقتراب القطة من شخص بعينه فيه رسالة روحية عميقة. إنها ليست مجرد (عابر سبيل)، بل هي رسول رحمة.

من العجب الذي رأيت؛ كنا نصلي في مسجد بمشعر منى أيام الحج برفقة استاذي حسن الزين. كانت قطة تدخل المسجد ونحن في انتظار الصلاة فتتخطى الناس جميعا وترقد أمام حسن. تكرر هذا مرات، فسألت البروفيسور حسن: ما لهذه القطة تأتي إليك من دون الناس؛ تتخطى الصفوف وتقترب منك أينما جلست فتمد يدك تمررها بلطف على ظهرها… ابتسم الزين واكتفى بالقول: “أبوي كان عنده تلتاشر كديسة” أي أن أبي كان عنده ثلاث عشرة قطة!

تأملت ذلك، وحسبته من مظاهر الصلاح في ذلك الرجل الذي عرفنا فيه الزهد والتوكل، وقد حضرت معه موقفا أرويه بغير حرج فهو الآن في رحمة الله تعالى.

ظللت أسائل نفسي عن منظر القطة مع حسن الزين حتى سمعت أحد المتحدثين في فيديو بالأمس عن معنى اقتراب القط من إنسان، فمما ذكر أن ذلك إشارة لتوسعة في الرزق، ودليل على صفاء القلب وأنه قلب محفوف بالرحمة. وأيضا علامة التوكل فالقطة تعيش متوكلة بالفطرة على خالقها، واقترابها من شخص ما تذكير بالتوكل على الله.

لما اتصلت بأستاذي في السودان وأخبرته بأن الاختيار قد وقع عليه لأداء الحج بتكلفة كاملة وتقديم ورقة علمية في منشط علمي، فاجأني بالاعتذار لأن جواز سفره يحتاج للتجديد، والوقت ضيق ولم تبق سوى أيام قليلة من الحج!

تيسّر الأمر بحمد الله، وفوجئت به يصل إلى مكة دون إحرام وعرفت السبب أنه لم يحمل معه ما يشتري به ملابس الإحرام. خرج من السودان وهو لا يحمل ريالا واحدا، وهذا من التوكل الذي عرفناه عنده ورجاء ما عند الله تعالى: “قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له، وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين”. في اليوم التالي لهذا الموقف حصل لأستاذنا الزين بسط في الرزق حتى إنه بادر إلى شراء هاتف كان يتمنى شراءه.

إن لنا في قصص التوكل والرحمة عبرة وأي عبرة في هذا الزمان الذي يتجرد فيه بعض بني البشر من كل القيم!

في هذا اليوم الذي أكتب فيه خبرٌ عن مُسيّرات ضربت روضة أطفال في مدينة كالوقي بجنوب كردفان وقتلت العشرات من الصغار وذويهم دون رحمة أو إنسانية.

ما لبعض الناس ينحطون إلى هذه الدرجة؟ أهؤلاء الناس من طينة البشر؟

معروف عن السودانيين حساسيتهم من قتل الحيوان الأليف؟ فكيف بقتل الأبرياء من النساء والأطفال.

تسلمت يوم أمس من أستاذنا البروفيسور الطيب علي أبو سن كتابه “الشعر الشعبي عند الرباطاب”. وتوقفت عند رثاء قطة من أحد الشعراء الرباطاب الحاج عثمان الكليباوي. القطة المسالمة اسمها (سانتوت)، أوسعها أحدهم واسمه عثمان ضربًا بالنبّوت حتى ماتت. يقول الشاعر:

في شان الله يا سانتوت

وكل الحي وراه الموت

مرقت فسحة كايسة القوت

يا الضربوكي بالنبّوت

عثمان اصلو ما خصاه

يضرّب فيها بالعصا

حتى هاشم اخيو معه

يكشحو بيها بي الواطه

عثمان ضربُه مالو قياس

بالفرار وفوق الراس

خلينا الورر لا باس

تكتلوا في كدايس الناس؟

والورر هو الورل، والمعنى: لا بأس من قتل الورل فهو حيوان غير مستأنس، ولا حرج من قتله. أما قتل الحيوان المسالم مثل القطط فهذا عيب كبير في أعراف القبيلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى