رأي

يا .. ناسينا .. أنا ساكت هاتي !!

ابراهيم احمد الحسن

(1)

يا ناسينا ..!!

ليست لها علاقة البتة ب أغنية محمد وردي الأشهر ، والتي نظم كلماتها حسن عبدالوهاب وانما تلاقت الحروف في العدد وفي النطق فشكلت بلاغة واضحة، تقترب بالكلمتين من الجناس . جناس إختلاف المعنى مع تشابه اللفظ .

(2)

وردي حين غنى (يا ناسينا حن علينا) ما كان يدري ان ناسي تعني شيئاً آخر ، وهكذا هرعت الي مفردات لغتي السودانوية وأضعها في الحزية مع مفردات اللغة الاندونيسية وقد بدأت آنذاك ادرسها في معهد ايكيب باندونق العتيق . الزمان مستهل تسعينات القرن الماضي والمكان جغرافيا باذخة بالحسن والماء والجمال والوجه الحسن.

(3)

حملت بلح ( القنديلة ) لاجد ( الجنديلة ) هنا في إندونيسيا تعني شباك او نافذة ثم نظرت منها الي (بنتُ) بضم التاء فوجدتها في الاندونيسية باب . وبين الدخول من الباب والخروج من الشباك وجدتني اتعلم الاندونيسية سريعاً وحافظت علي ذخيرة عامرة بنيتها ( سيدكيت .. سيديكيت ) يعنى ( شوية..شوية ) لدرجة انني عندما عدت الي إندونيسيا بعد ثلاثة عقود لم اجد صعوبة تذكر في التحدث بلغة الباهاسا .

(4)

وحين لا ينسب ل ( ساكت ) قول . وحتى عندما يتحدث احدهم فارغاً فإنه يقول كلام (ساكت) لا يجتمع القول والكلام (ساكت ) إلا عندنا فالعالم يجمع انه لا ينسب ل ساكت قول ، إلا ان السكوت عندنا إفصاح وإبانة . والذي يقابل مفردة (ساكت ) في لغة الباهاسا ساكت اخرى اذ انها تعني مريض ، وعندما كنت احكي بذلك ل صديق لي علق قائلاً هذه لغة عميقة فالمريض عندنا يظل ( ساكت ) طوال فترة مرضه وما ان يشفى حتي يبدأ في الثرثرة والكلام ، وبين سكوته ومعافاته تتوهط الكثير من (الخارجيات) إذا تعمق المرض او كان العلاج يتطلب تدخلاً جراحياً من أدواته بنج كامل . وعندما يعشق الإنسان حد الوله فإنه يصبح ( ساكت هاتي ) !! وال هاتي هو القلب !! والعجيب ان المكان الذي يُعالج فيه المريض الذي هو المستشفى يسمى ( روما ساكت ) وروما تعني موقع او مكان فالمستشفى هو ( مكان المريض ) . ثم ان (مكان ) ذاتها عندنا يقابلها نطقاً (مكان ) في لغة البهاسا ومكان تعني أكل او طعام وبالتالي تصبح (روما مكان ) بلغة البهاسا هي موقع الاكل اي المطعم !!

( 5)

وتلازمك مفردة ( رُومَا ) طوال فترة تعلمك للغة الباهاسا ولا غرو فكما ذكرت فهي تعني المكان (الذي يحوي كذا او كذا )

وتتقاود ( رُومَا ) مع (تيمبات) ليشكلان معنى متقارب وهو ( المكان ) وقد ترسخت المفردة بمقاربته بمفردة ( شمبات ) ، تحريك الحرف الاول وحده يجعل الثانية تتمدد بين ( الحِلة والاراضي) بينما تبقى التاء في تمبات ثابتة لتجعل منها ( مكان ) كما في ( تيمبات تدور ) و ( تيمبات ديدوك ) و ( تيمبات مكان )، حيث تدور تعني نوم وديدوك تعني جلوس ومكان تعني ( طعام ) وبالتالي يصبح المعنى علي التوالي ( غرفة نوم ) ، ( غرفة جلوس ) و ( غرفة طعام ) وعليه تحولت تيمبات الي ( غرفة ) والأطرف ان هناك (تيمبات كيجيل ) بكسر الكاف وتعطيش الجيم حيث تعني ( صغير ) وبالتالي اصبح عندنا ( غرفة صغيرة ) في البيت والمقصود هنا (حمام ) إلا ان حمام ايضاً يمكن الاشارة اليه ب( تيمبات ماندي ) وماندي تعني استحمام وبالتالي يصبح الحمام هو ( غرفة استحمام ) وغني عن القول انني قاربت بين مفردة ماندي مع وجبة المندي اثناء تعلمي للغة فرسخت الاولى عندي ، وظلت الثانية تلك الوجبة الدسمة التي يحبها الكثير من آكلي اللحوم .

(6)

الشعب الأندونيسي، راقٍ وشديد التهذيب. عريق الحضارات وأصيل الأرومة ومتعدد الأعراق. متنوّع المشارب في وحدة راسخة وسلام مقيم. لذا، يتخذ من كل الأوقات مناسبات لتبادل التحايا وإفشاء السلام . ولم يقابلني شعب بمثل هذه الذخيرة من مفردات التحايا وإفشاء السلام فلكل وقت تحية ولكل مناسبة سلام وتهاني . تسبق التحية عندهم، كلمة (سلامات)، وتنطق هكذا على لفظها العربي. تحية الصباح عندهم: (سلامات باقي). وتحية الظهر: (سلامات سيانغ). وتحية الأصيل: (سلامات سورى). ونهارك سعيد، هي: (سلامات هاري). وتحية الليل، هي: (سلامات ملام). والملام هو الليل! وحقاً، الليل كله ملام وملامات.

(7)

وتنداح التحايا والسلامات في لغة البهاسا فتكون تحية النوم: (سلامات تيدور) وهي بمثابة (تصبح على خير). وتحية السفر: (سلامات برغي). وتحية العودة: (سلامات داتانغ). وتحية الشفاء والحمدلة من المرض: (سلامات ساكت). وساكت وكما اسلفنا هو المرض بلغة البهاسا. انظر معي الي هذا الكم الهائل من (السلامات) والتي لا تقودك إلا الي نتيجة واحدة مفادها : كم هو هذا الشعب متسامح ، مضياف وكريم حتى في بذله للتحايا والسلام والتي يتبدى كرمه فيها حد الاغداق كاشفاً عن صفات لا صنو لها ولا مثيل .

(8)

الإندونيسيون يقابلونك بسلامات في كل الاحوال ، اما نحن عندما يتدلل علينا المحبوب نغني له ( دا ما سلامك ) كما فعل مجذوب أُنسة ، ثم لا نلبث ان نتوسل في غُنانا ونردد ( يا غالي نحن ليك هوينا / سلم وبالرموش قُل لينا) كما تغنى ود اللمين ، وسلام الرموش او العين تبدو في اغنية عبدالعزيز المبارك ( يا احلى جارة يا احلى جارة / عطرتي كل الدنيا وانت مارة / وحياة حرير خديك وحياة نضارة / سالمينا لو بالعين او بالاشارة ) .

(9)

اسكت ساكت ، ربع ايديك ، عاين قدامك ، لازمة يرددها بلغة آمرة الالفة في فصل المدرسة عندنا في زمن غابر في السودان ومع ذلك يستمر الشغب في الفصل وتمنلئ قائمة المهرجلين حتى آخرها بالمشاغبين ولا احد منهم من يطيع ويسكت ساكت . اما في إندونيسيا وعندما تكون ساكت تذهب الي ( روما ساكت ) للتعالج وتتعافى وتقوم تحوم علي رجليك ( كليلنق .. كليلنق ) .

(10)

ولتعلموا أنا هنا (ساكت هاتي ) وهاتي هو القلب  والمعنى الحرفى للجملة أنا (متيم ) !!

والذي يجعلني عيان موله ومتيم غُنا وردي ( يا ناسينا / يا مجافينا / حن علينا / والله الدنيا دي الفراقة ! / يا الله وين تاني نتلاقى ؟ )..

وحتى نتلاقى يجب ان تعرفوا ان مفردة (ناسي ) في لغة الباهاسا ( تعني أرز ) !!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى