خطاب البرهان: وضوح متأخر وضروري .. ورد فعل إماراتي غاضب

احمد شموخ
جاء خطاب رئيس مجلس السيادة بالأمس بوصفه الأكثر شمولًا ووضوحًا منذ اندلاع الحرب، ودشّن مرحلة سياسية ودبلوماسية جديدة في معركة السودان من أجل كرامته وسيادته ووحدته، وفي سبيل تحرير كامل ترابه من المشروع الجنجويدي الإماراتي.
ويُعدّ هذا الخطاب الأهم منذ فشل انقلاب الجنجاقحت في ١١ أبريل ٢٠٢٣، ذلك الانقلاب الذي أعقب رفض الجيش للسقوفات الإماراتية المطروحة في الاتفاق الإطاري عبر الدعم السريع والحرية والتغيير، والتي استهدفت تفكيك الجيش – درع الدولة والأمة – وإعادة هندسة مؤسسات الدولة بما يتوافق مع مطامع أبوظبي في الهيمنة والسيطرة.
لم يتأخر ردّ سلطة أبوظبي على خطاب البرهان الذي ردّ على تصعيدها العسكري والسياسي، حيث حاولت أن تُلعد حمم البرهان الساخنة بعيداً من أرضها. أخرجت الإرهابي حميدتي للإعلان عن هدنة من طرف واحد في محاولة مكشوفة لإحراج الحكومة ولتغيير السردية الإعلامية الدولية من “تورط الامارات في دعم الإبادة في السودان” لـ”الجيش يرفض وقف اطلاق النار”، وستخرج أبواقها ومشترواتها من سياسيين لإعلاميين لتنفيذ هذه المحاولة، ذلك رغم نعي وزير الخارجية الأميركي وحكمه على مثل هذه المحاولة بالفشل حين قال إن مليشيا الجنجويد غير قادرة على الالتزام بأي هدنة.
ثم خرجت وزيرة الدولة في سلطة أبوظبي ريم الهاشمي لتهاجم تصريحات البرهان وتتهمه برفض وقف إطلاق النار والمطالبة بمعاقبته، رغم أنه دعا فقط لوضع إطار واضح يعالج المشاغل الأمنية والسيادية والإنسانية للسودان؛ لأن أي وقف لإطلاق النار يتجاوز تلك المشاغل هو عمليًا إعلان تقسيم واستسلام السودان لمليشيات أبوظبي وعدوانها.
وفي السياق نفسه، التقى مُسعد بولوس – الذي وصفه البرهان بأنه “ينطق بلسان الإمارات” – بوزير خارجية سلطة أبوظبي عبد الله بن زايد في محاولة واضحة لاحتواء الحملة الإعلامية والسياسية الدولية التي تكشف الدور الكولونيالي العدواني لأبوظبي في السودان بالتركيز فقط على وقف اطلاق النار بدون أي سياق حول عدم مقبولية تواجد أبوظبي في الرباعية بينما هي الطرف المُعتدي. ومثّل هذا اللقاء أول ظهور علني لعبد الله بن زايد في ملف السودان، بعد اكثر من سنتين كانت توكل خلالهما هندسة التدخل التخريبي الاماراتي لشخبوط، وهو ما يؤكد أن خطاب البرهان أصاب مركز القلق السياسي لأبوظبي.
للمرة الأولى، كان البرهان صريحًا في رفض وجود الإمارات داخل الرباعية، لأن دورها في تمويل ودعم وحماية الجنجويد يجعلها طرفًا أصيلًا في الحرب وليس وسيطًا. وهذه هي المرة الثالثة التي يعلن فيها رأس الدولة موقفًا واضحًا ضد الدور الإماراتي التخريبي، وهو وضوح طال انتظاره ويجب أن يزيد في الشؤون السياسية.
أشار البرهان بوضوح إلى أن سلطة أبوظبي لا يمكن أن تكون وسيطًا وهي الطرف المعتدي، وهي رسالة تلاقت مع ما لمح إليه وزير الخارجية الأميركي روبيو حين رفض أن تتحول الرباعية إلى واجهة تختبئ خلفها جهات تشعل الحرب، وذلك في رده على سؤال حول دور الإمارات عقب لقائه وزير الخارجية السعودي في كندا. هذا الوضوح من البرهان يعيد النقاش إلى جذور الأزمة بدل التورط في تفاصيل تُستخدم لتشويش المشهد وإخفاء الطرف الذي يطيل أمد الحرب.
خطاب البرهان أعاد قدرًا كبيرًا من الثقة داخليًا وخارجيًا، وهي ثقة يحتاجها السودان لتقوية علاقاته مع أشقائه وحلفائه وكسر محاولات أبوظبي حصاره سياسيًا وعسكريًا وإعلاميًا. الخروج السوداني من شبكات الهيمنة الإماراتية ضرورة استراتيجية تمنحه مساحة مناورة أوسع في الإقليم. وعلى المستوى الداخلي تلاقى الخطاب مع الوعي الشعبي والمؤسسي في تعريف طبيعة هذه الحرب باعتبارها حرب وجود بالنسبة للسودانيين، وليست صراعًا بين جنرالين، وهو ما يعيد ترتيب أولويات الدولة ويضع المعركة في إطارها الاستراتيجي الحقيقي.
ولفت الخطاب إلى الدور الذي لعبه ولي العهد السعودي في نقل حقيقة ما يتعرض له السودان للرئيس الأميركي، وهو ما يبرز مرة أخرى عمق الانقسام داخل الرباعية. فأطرافها لا تتشارك رؤية واحدة لتعريف الحرب في السودان؛ فبينما تعمل أبوظبي على الإبقاء على الدعم السريع كقوة سياسية وعسكرية موازية للدولة – وكيلًا لأطماعها – تتمسك الحكومة السودانية برفض هذا المسار الذي يعكس طموحًا إماراتيًا لفرض نفوذ كولونيالي جديد عبر أدوات سياسية بعد فشل العدوان العسكري في تحقيقه.
ويستمر وضوح الاستقطاب داخل الإدارة الأميركية في الموقف من السودان، بينما لدينا بولوس المتماهي مع أجندة أبوظبي يمارس ضغوطًا على الحكومة لوقف العمليات في الميدان بدون أي أفق يحمي وحدة السودان، تبدو مواقف وزير الخارجية الأميركي روبيو أكثر حذرًا، كما ظهر في تصريحاته بعد قمة السبع في كندا، خصوصًا رفضه الوقوع في فخ دعاية “الممارسات الفردية” التي تحاول أبوظبي عبرها غسل جرائم الجنجويد، كما في مسرحية “اعتقال أبولولو”.
ورغم قوة الخطاب، إلا أنه لا يشير بالضرورة إلى تصعيد عسكري وشيك، فعمليات تحرير كردفان ودارفور مستمرة ولم تتوقف. الأقرب أن السودان مقبل على مرحلة سياسية ودبلوماسية أكثر حسماً، خاصة بعد إعلان الرئيس التركي أن السودان طلب مشاركتهم في جهود وقف الحرب.
إن الحديث عن هدنة دون معالجة الوجود العسكري للدعم السريع، الذي خرق اتفاق جدة واحتل مدنًا وهجّر أهلها ونهب ممتلكاتهم بعد توقيع إعلان الالتزام، ودون وقف الدعم العسكري الإماراتي المتواصل بالسلاح المتطور والمرتزقة، فمعناه تكريس التقسيم وشرعنة سلطة موازية تحاول أبوظبي فرضها على حساب الدولة السودانية. كما يعني تجاهلًّا لتأثير هذا المسار على استقرار البحر الأحمر والسهل والقرن الإفريقيين، في ظل الانتشار الرهيب للسلاح والمرتزقة الذي غذّته حرب أبوظبي ضد السودان، حتى بات يهدد استقرار دول مثل مالي وبوركينا فاسو ويمتد أثره إلى نيجيريا.



