رأي

بلغة لا أنياب لها،، قراءة هادئة في نصٍّ تَزَيَّنَ بالأدب

خالد حمزة زين العابدين

في مقامٍ يتطلّب ميزاناً دقيقاً بين وجوب البيان وأدب الخطاب، ويقتضي جمعاً محسوباً بين حاجة الكشف وواجب التهذيب، أجد من الضروري ـ قبل الولوج في موضوع هذا المقال ـ أن أُبَيِّنَ للقارئ الكريم أنَّ المقصود هنا هو المقال الذي قام بنشره الدكتور الوليد آدم مادبو قبل حين، والذي أَجْتزِئُ من عنوانه ما أَوْرَدَهُ في سياق التعريف بمقصده: (لِنكسر الصمت ونمنح اللغة أنياباً) وهو المقال الذي صدر بشأنه حكمٌ قضائي أدان كاتبه بعد أن بسط القضاء سلطانه على ما ورد فيه من عباراتٍ وإيحاءاتٍ وتوصيفاتٍ شكّلت ـ في نظر المحكمة ـ مِساساً بكرامة امرأة واعتداءً على حُرْمة الخطاب العام. وإذ أشير إلى ذلك، فليس الغرض إعادة فتح ملف قضية فصل فيها القضاء، بل إعادة هذا النص إلى الذاكرة العامة حتى يُقرأ في سياقه من جديد، ويُنظر إليه من زاوية قيمية وأخلاقية واجتماعية تستوجب البيان.

المقال ـ رغم ما يلمع فيه من زخرفة لغوية وتكثيف إنشائي ـ لا يُقدِّم للقارئ سوى مثال صارخ على تحويل اللغة إلى أداة إيذاء، وعلى استخدام البلاغة ستارًا لما لا يمكن تبريره من مِساسٍ بكرامة المرأة. فالنصُّ لا ينطلق من رؤية إنسانية تحترم المرأة كذاتٍ كاملة، بل يتعامل معها كجسدٍ يُستدرج وصورة تُعاد صياغتها وفق أهواء الكاتب، حتى يغدو وجودها في السرد مجرد وسيلة للتلميح والتجريح، لا موضوعاً لنقاش رصين. وخطورة هذا الخطاب أنّه يقدِّم نفسه في هيئة نقدٍ اجتماعي، بينما هو في جوهره انزلاق إلى التحقير. فالكاتب يستعير المرأة لتأثيث الخيال، ويستخدم حضورها في النصِّ كمادة درامية لا كقيمة مُكرَّمة، فينقلب المقال من رأي إلى مساحة تعريض، تتوارى فيها القسوة خلف جمل مصقولة، ويتخفّى فيها التهكّم وراء لغة تبدو في ظاهرها فنَّاً وفي باطنها إساءة. وذلك ما يجعل الأثر الذي يُخَلِّفه المقال عميقاً وممتدّاً، فهو لا يسيء إلى شخص بعينه كما يرى الكاتب، بل يتجاوز المرأة المعنية ليجعل من أجساد النساء جميعًا جسرًا لتصفية حسابات سياسية، وكأنَّ الطريق إلى الطعن السياسي لا يُعبَّد إلا بامتهان شرف النساء، ولا يكتمل إلا بجرّ الأنوثة إلى حلبة سجال لا شأن لها به. وهذا مسلكٌ خطير، لأنّه يجعل من المرأة أداةً لتحقيق غايات أخرى، وهو انزلاق وطعن في المفهوم الكلّي للمرأة، وانتقاص من حرمتها التي صانتها القيم والأعراف والشرائع. فكل امرأة يمكن أن تجد نفسها هدفاً ضمنياً لتلميحات لا تخطئ، كأنَّ النصَّ يسحبها قسراً من مقام الإنسان إلى موضع الرمز المبتذل. كما أنَّ المقال يدّعي مقاومة الذكورية السلطوية، لكنه يعيد إنتاجها بأشدّ صورها حِدَّة، إذ يجعل المرأة مُجرَّد سطح يعكس عليه الكاتب هواجسه، لا فاعلاً له إرادة وكرامة. وهذا النمط من الكتابة ـ حتى لو خلا تمامًا من ذكر الأسماء ـ يظل اعتداءً على القيم والأعراف والموروثات التي رسّخت حرمة الأعراض، ومثلاً سيئاً لإقحام الخيال الأدبي في مواضع يجب أن يسود فيها الاحترام، لا الإيحاء ولا التحقير. والمقال ـ مهما تجمّل بثوب الأدب ـ لا يُعدّ معالجة لقضية عامة ولا نقداً مسؤولاً أو نصَّاً ينير فكرة ويفتح باباً للوعي، بل هو نصٌّ جارحٌ جارفٌ للقيم مصادمٌ للمروءة المهنية، أنْ جعل من امرأة مادة للتناول الأدبي المُهين، وهكذا يهبط المقال عن مستوى الرأي المسؤول إلى دركٍ من التشهير المقنَّع، وتصبح العبارة اللامعة غطاءً رقيقاً لاعتداء لغوي يطال حُرْمة المرأة. وما يخرج به القارئ في النهاية إحساسٌ بأن الجمال الظاهري للنص لم يكن سوى طلاء يخفي وراءه قسوة غير مبررة، وافتقارًا إلى أبسط مقتضيات الاحترام الإنساني. وليس خافياً أنَّ الكلمة إنَّما تُسخَّرُ للكشف والتحليل والمعالجة وفتح أبواب الوعي. أما هنا، فإنّ ما كُتِبَ لا يبني تحليلًا، ولا ينهض على معالجة، بل يُسخِّر اللغة في اتجاهٍ واحد، هو الإثارة الجارحة، ممّا يجعل أي ادعاء ينهض بأنه يتناول قضية عامة لا يعدو أن يكون مجرد زعم يُكذِّبه البناء اللغوي للمقال. فالعبارات المختارة، وطريقة السرد، وأسلوب التوصيف، كلها تصرف القارئ عن أي فكرة موضوعية، وتدفعه قسراً إلى منطقة لا علاقة لها بالنقد الاجتماعي أو التحليل، بل إلى الاستمتاع بلغة وُظِّفت ـ للأسف ـ للنيل من عرض امرأة، والتقليل من شأنها، وجرح كرامتها. كما أن الكاتب قد بشَّرَ بمنح اللغة أنياباً، وهذه العبارة ليست زينة بلاغية، بل مفتاح يكشف مقصد المقال كله. فكلمة (أنياب) في اللسان العربي ذات دلالة واحدة لا خلاف عليها، هي الجرح والتمزيق والافتراس. واستخدامها هنا يُدخِل القارئ في جوٍّ مُعدٍّ سلفًا للإيذاء، ويُهيئه لاستقبال كلام جارح لا يناقش أو يعالج. والسؤال هنا:

ما حاجة الكاتب إلى لغة ذات أنياب ما دام فيها متسع للحكمة والقول الحسن؟!

وليعلم كاتب المقال – إن لم يكُن عالماً – أنَّ الأنياب لا تُسخَّر في مقام البيان، بل في مقام العدوان، ولا تُستخدم لخلق وعي، بل لإحداث جرح. وهذا وحده يكفي لتوصيف المقال قبل قراءة سطر واحد منه، لأنه يعلن أن الطريق المختار هو طريق الإيذاء وليس سواه. وإنَّ أخطر ما في المقال أن الإساءة أتت مُنمَّقة، فتحولت اللغة إلى سياجٍ  يحجب الحقيقة ويخدع القارئ. وهذه مفارقة مؤلمة، أنْ يتضاعف الأذى حين يُقدَّمُ في قالبٍ أدبي ساحر. والبلاغة حين تُستخدم في غير موضعها تصبح سلاحًا أبلغ أثراً من الإساءة المباشرة، لأنها تمُرُّ عبر الوعي دون إذنه، وتغرس في القارئ صورة مشوّهة وراء ستار النقد.

تلك قراءة لا تنصرف إلى الدفاع عن شخصٍ بعينه، بل عن مكانة المرأة، وعن حُرْمة الخطاب العام، وعن قيم المجتمع التي لا تسمح بأن تكون الأعراض مادة للسرد الأدبي أو منصة للخيال المتجاسر.

إطلالة على بيان الكاتب

🔹خرج الكاتب ببيان يؤكد من خلاله اطمئنانه إلى سلامة موقفه القانوني ويُقرِّر أن ما تم تداوله من أحكام ما هو إلا شائعات، وأنَّ أي حكم –  إن وُجد – يظل قابلاً للإلغاء، وأنَّ دفوعه سوف تُسقِط الدعوى من أساسها. وهي عبارات، مهما بدت منسوبة إلى حَقِّهِ في الدفاع، فإنها لا تمسّ جوهر القضية التي نحن بصددها، ولا تغيّر من حقيقة أن النصَّ محل النقد قد ترك أثره الواضح في الوجدان العام. فالقانون ينظر إلى الوقائع بإجراءاته وضوابطه، أما التاريخ فينظر إلى المواقف بما تُسطِّره الأقلام لا بما تُقرِّره الأحكام. والنص الذي كتبه الرجل – بما حواه من تصوير جارح وتناول مُهين  – يظل شاهدًا لا يسقط بإلغاء حكم، ولا يُمحى بمعارضة، ولا تُبدِّده دفوع قانونية مهما بلغت من الفصاحة. فإنْ كان الكاتب مطمئناً إلى موقفه القانوني، فإنَّ الرأي العام غير مطمئن إلى موقفه الإنساني. وإن كان الكاتب يتحدث عن قابلية الحكم للإلغاء، فإن الكلمة التي كتبها لا تُلغى، لأنها خرجت إلى الناس فأصبح لها أثرها الذي لا يزيله اعتذار.

والقضاء قد حكم في الدعوى، أما المقال – بما حمله – فقد حكم فيه الناس وكفى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى