إرهاب المال: كيف أعادت الفوضى تشكيل اقتصاد العنف في مالي

د. عبدالناصر سلم حامد
في قلب الصحراء الكبرى، حيث تلتقي رياح التجارة القديمة ببارود الحروب الجديدة، تقف مالي كنموذجٍ صارخ لانهيار الدولة حين يتحول المال إلى سلاح، والثروة إلى فخٍّ سيادي. لم تعد الحرب هناك بين جيشٍ ومتمرّدين، بل بين من يملكون المال ومن يصنعونه من دم الآخرين. فالعنف في مالي لم يعد طارئًا، بل منظومة إنتاج تُدار ببرودة المصانع ودهاء التجار.
تعيش البلاد منذ سنوات على إيقاع اقتصادٍ غير رسمي يُعيد إنتاج الفوضى، حيث تتقاطع شبكات الذهب والتهريب والخطف والمخدرات مع مصالح السلطة في العاصمة باماكو. لقد صار الدم العملة الأكثر استقرارًا في اقتصادٍ يتقلّب على فوهة البندقية، وصارت الحرب مشروعًا يُدار بعقلانية السوق لا بانفعالات الميدان.
مع انسحاب بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام (مينوسما) في نهاية ديسمبر 2023 بعد عقدٍ كامل من الوجود الدولي، دخلت مالي مرحلة جديدة من الفراغ الأمني والسياسي. ومع انتهاء التفويض الأممي، تمدّدت الجماعات المسلحة شمالًا ووسطًا، وانهارت مؤسسات الحكم المحلي التي كانت تستمدّ قوتها من دعم البعثة. وفي غياب الدولة، نشأت سلطة موازية تفرض قوانينها وجباياتها وتبيع الأمن لمن يملك ثمنه.
خلال السنوات الأخيرة، أصبحت عمليات الاختطاف مقابل الفدية الركيزة المالية الأولى في اقتصاد الحرب. فبين عامي 2019 و2024، سُجّل أكثر من 180 حادثة اختطاف في مالي وبوركينا فاسو خلال ستة أشهر فقط – أي بمعدل يقارب عملية واحدة يوميًا – بينما تشير التقديرات إلى نحو 400 ضحية سنويًا في البلدين منذ خمس سنوات. لم تعد الفدى هدفًا بحد ذاتها، بل وسيلة لإدارة المجتمع، أداة لبسط النفوذ وخلق اقتصادٍ يقوم على الخوف. فالخوف في مالي لم يعد عرضًا جانبيًا للحرب، بل موردًا يُدار ويُستثمر، إذ تُبقي الجماعات على مستوى محسوب من الرعب لتثبيت سلطتها دون الحاجة إلى السيطرة الدائمة.
الذهب بدوره أصبح المورد الأكثر استدامة وتموضعًا في قلب المعادلة. فمالي – ثالث أكبر منتج للذهب في إفريقيا – تنتج رسميًا نحو 65 طنًا من القطاع الصناعي، يضاف إليها ما يقارب 30 طنًا من التعدين الحرفي غير المنظّم الذي تسيطر عليه الجماعات المسلحة في مناطق غاو وكيدال ومنكا. وتُهرَّب نسبة تتراوح بين 10 و15 في المئة من إجمالي الإنتاج إلى الخارج عبر شبكات تمتد إلى غينيا وليبيا والإمارات وتركيا. وهكذا تحوّل الذهب إلى «نفط الإرهاب» في الساحل، إذ تُستخدم عائداته لشراء الأسلحة وتمويل المقاتلين وضمان الولاءات القبلية.
وتزامن هذا التمدد الاقتصادي غير الشرعي مع اهتزاز الشرعية السياسية في باماكو. فمنذ انقلاب أغسطس 2020 ثم انقلاب مايو 2021، أعادت السلطة العسكرية رسم توازنات جديدة في البلاد. فبينما رُفع شعار “استعادة السيادة”، كانت الدولة تفقد اقتصادها لصالح قوى موازية. ومع تراجع الوجود الفرنسي والعزلة الغربية، اعتمدت باماكو على دعم شركاء جدد، أبرزهم مجموعة “فاغنر” الروسية. ولم تكتفِ “فاغنر” بتقديم الدعم العسكري، بل دخلت في قطاعات التعدين والحراسة وحماية القوافل، لتصبح طرفًا اقتصاديًا فاعلًا في معادلة الحرب. ومع انسحاب باريس وصعود موسكو، تبلورت منظومة جديدة من “الاقتصاد الأمني الهش”، حيث يُستثمر الخوف كسلعة، وتُدار الفوضى كاستراتيجية سياسية.
في المناطق الريفية، أصبح المال لغة بقاء. يدفع الأهالي “رسوم حماية” أو “إتاوات” مقابل السماح لهم بالزراعة والرعي، ويُجبر التجار على تسليم جزء من أرباحهم مقابل المرور الآمن. ومع الزمن، تحوّل هذا النظام إلى بنية ضريبية موازية، تستبدل سلطة الدولة بسلطة الميدان. وفي بعض القرى، بات السكان يعتمدون على الجماعات المسلحة لتأمين المياه والوقود والسلع الأساسية، مما عمّق الانقسام بين المركز والأطراف، وأضعف أي فكرة متبقية عن الدولة الوطنية.
أخطر ما في المشهد أن الفساد الإداري في باماكو تواطأ مع هذا الواقع. فبعض المسؤولين المحليين يعقدون تفاهمات غير رسمية مع الجماعات لتأمين مناطقهم، أو يسهّلون عمليات دفع الفدى عبر وسطاء قبليين، فيما تتحول بعض المساعدات الدولية إلى مصدر تمويل غير مباشر للعنف. وهكذا تتقاطع مصالح المتطرفين والبيروقراطية في علاقة تقوم على التبادل لا على الصراع. إنها “الصفقة الصامتة” التي تُبقي الحرب دائرة وتمنع الدولة من الانهيار الكامل أو التعافي الحقيقي.
ولا يمكن فهم الحالة المالية بمعزل عن الجغرافيا الأوسع للساحل. ففي النيجر، تتجاوز قيمة الفدى المدفوعة سنويًا 12 مليون دولار، بينما ترتبط في بوركينا فاسو تجارة الذهب غير القانونية بتهريب الوقود والأسلحة عبر الحدود مع بنين وتوغو. وفي ليبيا، تؤمن شبكات التهريب منفذًا للذهب المالي نحو الأسواق الإقليمية. وهكذا تتحول الحدود إلى “أنابيب مفتوحة” للمال والسلاح، يتغذى منها اقتصاد الفوضى عبر دول الساحل مجتمعة.
هذا التشابك جعل من مالي مركزًا جغرافيًا وماليًا في شبكة الحرب، لا مجرد ضحية لها. فوفق مؤشرات الجريمة المنظمة لعام 2024، تصنّف مالي ضمن أكثر خمس دول إفريقية هشاشة في مجال الاقتصاد غير المشروع، حيث تمرّ عبر أراضيها قرابة 80 في المئة من عمليات التهريب الإقليمي. ومع اعتماد البلاد على الذهب بنسبة تفوق 70 في المئة من صادراتها، تصبح أي اضطرابات في هذا القطاع مسألة سيادية تهدد وجود الدولة ذاته.
أما على المستوى الدولي، فقد أعاد انسحاب فرنسا وانكفاء أوروبا صياغة ميزان القوى في الساحل. موسكو تسعى إلى تثبيت حضورها عبر النفوذ العسكري والاقتصادي، بينما تراقب واشنطن من بعيد. أما الاتحاد الإفريقي و”إيكواس”، فموقفهما يتأرجح بين الإدانة والعجز، دون قدرة فعلية على بناء مقاربة اقتصادية وأمنية متكاملة. وهكذا وجدت الجماعات المتطرفة نفسها أمام فراغ جيوسياسي مثالي يسمح لها بالتحرك بحرية وملء الفراغين المالي والأمني في آن واحد.
إنّ مواجهة “إرهاب المال” في مالي تتطلب رؤية تتجاوز منطق الحرب التقليدية إلى معالجة الجذور الاقتصادية والاجتماعية للنزاع. فالقوة العسكرية وحدها لا تكفي ما لم تُرفق بسياسات تنموية تعيد الحياة إلى المناطق المهمّشة، وتخلق فرصًا اقتصادية للشباب الذين يجدون في السلاح مصدر رزق. كما أن التعاون الإقليمي ضرورة حيوية لتجفيف منابع التمويل غير المشروع عبر مراقبة تجارة الذهب والمخدرات والوقود وتبادل المعلومات الأمنية.
ما يجري في مالي اليوم ليس أزمة أمنية عابرة، بل انهيار لنظام العدالة والاقتصاد والثقة. فحين يتحول العنف إلى سلعة، والحرب إلى استثمار، تفقد الدولة قدرتها على إنتاج الحياة. إنّ بناء السلام يبدأ من استعادة السيادة الاقتصادية قبل العسكرية، ومن إعادة تعريف الثروة لتكون في خدمة الإنسان لا ضده. فبدون عدالة تنموية وإرادة سياسية حقيقية، سيبقى السلاح هو العملة الرسمية، وستظل الفوضى النظام الأقوى في قلب الساحل الإفريقي



