رأي

قراءة في بنية الصراع السوداني الراهن

د. كوثر أحمد السجان

في لقاءٍ حديثٍ على قناة الجزيرة، ذهبت الدكتورة أماني الطويل إلى أن ما يحدث في السودان اليوم من مجازر وانتهاكات ليس إلا امتدادًا لصراعٍ عسكري قديم الجذور في دارفور، ارتكبه سودانيون ضد سودانيين، وأن السودان يعيش اليوم تكرارًا لتلك المآسي في مناطق الوسط والشرق. وخلصت إلى أن فرضية توقف الحرب بمجرد توقف الدعم الإماراتي لقوات الدعم السريع غير صحيحة، لأن جذور العنف داخلية، وأن ما تقوم به الإمارات لا يتجاوز كونه «تدخلًا غير محمود».
وأضافت: “من المهم ألا يتم التحريض بشكلٍ عالٍ لفكرة أن هناك مؤامرة على السودان، فليس هناك مؤامرة على السودان، ولا مبرر لاستمرار هذه الحرب، لا على المستوى السياسي ولا الاستراتيجي للدولة السودانية ولا على المستوى الإنساني للشعب السوداني .”
ما قالته الدكتورة أماني الطويل يعكس اتجاهًا فكريًا متناميًا في الخطاب الإقليمي والدولي يسعى إلى تأطير ما يجري في السودان ضمن سردية الصراع الأهلي الداخلي الخالص، وينزع عنه صفة الدولية.
ورغم تماسك هذه القراءة جزئيًا من حيث الاعتراف بتاريخ الأزمة والتأكيد على البعد الداخلي لها، فإنها تمثل اختزالًا خطيرًا لطبيعة التحول الذي أصاب الصراع السوداني. إذ تعيد تعريف الحرب الجارية وكأنها امتداد ميكانيكي لما سبق، متجاهلة التحول الجوهري من نزاعٍ محلي داخلي على السلطة والثروة إلى صراعٍ مدوّل تتقاطع فيه المصالح الجيوسياسية مع الهشاشة البنيوية للدولة السودانية .
صحيح أن السودان عانى لعقودٍ من التمردات المسلحة والنزاعات الإثنية، غير أن تلك النزاعات كانت – في أغلبها – محلية النطاق، تخضع لمعادلة داخلية واضحة بين الدولة ومجموعات متمردة محدودة الموارد.
أما اليوم، فقد تحوّل أحد أطراف الصراع – وهو قوات الدعم السريع – إلى فاعلٍ إقليمي يرتبط بشبكات تمويل وتسليح عابرة للحدود، ويسيطر على موارد اقتصادية ضخمة من الذهب والتجارة غير الرسمية، ويتلقى دعمًا سياسيًا وإعلاميًا ولوجستيًا منتظمًا.
هذا التحول النوعي يجعل من الخطأ اختزال الحرب في جذورها التاريخية فقط، لأنها باتت تُدار بمنطق الجغرافيا الجيوسياسية لا بمنطق التمرد الداخلي.
ففي مطلع الألفية، كانت دارفور ساحة صراع محدودة. ورغم المآسي التي شهدتها، بقيت الدولة – بجيشها ومؤسساتها – الطرف الأقوى في المعادلة.
أما اليوم، فقد أصبحت الدولة نفسها هدفًا، إذ تواجه المؤسسة العسكرية الوطنية قوةً مسلحة تسيطر على مدنٍ ومطاراتٍ، وتتلقى دعمًا عسكريًا ولوجستيًا من الخارج، وتعمل بتمويلٍ خارجي واضح، وتستخدم أسلحة ثقيلة ومنظومات اتصالات متطورة لا يمكن أن تتوافر لفاعلٍ داخلي مستقل.
ولذلك فإن القول بأن الحرب داخلية خالصة وستستمر حتى دون الدعم الخارجي، يتجاهل مستوى التنسيق الخارجي الذي مكّن هذه القوة من الصمود والتمدد، ويُغفل درجة التعقيد والتدمير التي ما كانت لتبلغ هذه المرحلة دون تدخلٍ إقليمي مباشر.
وعليه، لا يمكن تفسير هذا الوضع بمقولة “الاقتتال الداخلي” وحدها. فالاعتراف بالمسؤولية الوطنية شيء، وتبرئة العامل الخارجي من دوره الفاعل والمقصود في تفجير التناقضات الداخلية شيء آخر.
بعبارةٍ أخرى، نحن أمام حربٍ لتفكيك الدولة لا لتغيير السلطة.
أما توصيف تدخل الإمارات بأنه “غير محمود” فقط، فهو يختزل واقعًا أكثر تعقيدًا. فالمسألة ليست مجرد اصطفافٍ سياسي، بل تدخلٌ ميداني واقتصادي منظم يؤثر مباشرة في مسار الحرب ويطيل أمدها.
فمن خلال الدعم المالي والعسكري عبر وسطاء إقليميين، وإدارة شبكة مصالح اقتصادية تشمل الذهب والنقل والتهريب، أصبحت الإمارات لاعبًا مركزيًا في الأزمة، لا مجرد طرفٍ خارجي جانبي.
والفارق بين “التدخل غير المحمود” و”التوظيف الممنهج لتفكيك الدولة” ليس لفظيًا، بل وجوديًّا في مصير السودان ذاته.
ويزداد التناقض حين نعلم أنها عضو في الرباعية الدولية (الولايات المتحدة – السعودية – الإمارات – مصر) التي تُعلن دعمها لوحدة السودان، بينما أحد أطرافها يغذي عمليًا أحد أكبر مهددات تلك الوحدة.
وفق منطق المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، فإن بقاء الدولة واستمرار سيادتها هما الهدف الأعلى الذي يعلو على كل الاعتبارات.
وبهذا المنطق، فإن السودان اليوم أمام معادلةٍ صعبة:
– يخوض حربًا معقدة تضعف قدرته على السيطرة على موارده وحدوده.
– يواجه تدفقات سلاحٍ وتمويلٍ خارجي لا يمكن إنكاره.
– يشهد جلب مرتزقة من عدة دول وتوظيف القوة العسكرية لفرض وقائع جيوسياسية جديدة على الأرض.
– ويقف أمام ضغوطٍ دولية تسعى لفرض تسويةٍ تُبقي على المليشيا كطرفٍ سياسي، ما يعني عمليًا تقويض الدولة من داخلها.
نعم، يتحمل السودانيون جزءًا من مسؤولية ما آل إليه الوضع، بسبب ضعف الإدارة السياسية، وإخفاق الدولة في إدارة التنوع والموارد، وتفكك المؤسسات.
لكن تحميل العامل الداخلي كامل المسؤولية، كما قالت الدكتورة الطويل، هو تبرئة ضمنية للعامل الخارجي الذي استثمر في هشاشة الدولة ومَوّل تفكيكها.
فالواقع لا يقول إن الحرب اندلعت من فراغ، بل إن هناك إرادةً دولية لإعادة تشكيل السودان بما يتناسب مع مصالح النفوذ في البحر الأحمر وشرق إفريقيا ومنابع النيل.
إن السودان اليوم لا يحتاج الى خطاب يطمس الحقائق باسم الواقعية ولا الى خطاب المؤامرة الذي يعفي الذات من المسؤولية .بل يحتاج الى وعي سياسي يدرك ان ضعف الدولة يغري الآخرين بتوظيفها ، وان اي قراءة تتجاهل هذا التفاعل بين الداخل والخارج انما تبسط المشهد وتضلل الراي العام .
فالحرب ليست مجرد استمرار لدارفور ، ولاهي مؤامرة غامضة ، بل هي نقطة التقاء بين تاريخ من الانقسام الداخلي وموجة من التوظيف الخارجي المنظم . بعبارة اخرى هي ذروة تحوّل النزاع المحلي إلى صراعٍ جيوسياسي شامل.
ولذلك فان اي تجاهل للبعد الخارجي لا يخدم إلا القوى التي تستثمر في استمرار الحرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى