أهمية التعليم التقني المهني في إعادة إعمار السودان 1-2

د. أحمد عبد الباقي
شهدت اليابان في أعقاب الحرب العالمية الثانية دمارًا شاملا طال مختلف جوانب الحياة: مدن مدمّرة، اقتصاد منهار، وصناعة شبه مشلولة، وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية في عام 1945، أدى إلقاء القنبلتين النوويتين على مدينتي هيروشيما وناجازاكي إلى سقوط ملايين الضحايا بين قتيل وجريح، بينما وجد الناجون أنفسهم من دون مأوى أو غذاء أو عمل. تضررت البنية الاقتصادية بشكل بالغ، حيث دُمّرت أو أُفلست أغلب المؤسسات التجارية والصناعية، وتوقفت مؤسسات الدولة عن العمل نتيجة تفكك الجيش وتفكيك الأجهزة العسكرية، مما أدى إلى ارتفاع كبير في أعداد العاطلين عن العمل، وتشير التقديرات إلى أن الحرب خلفت حوالي 13 مليون شخص دون عمل، إلا أن هذا الواقع بدأ في التغير تدريجيًا. بحلول عام 1947، انخرط ما يقارب 18 مليون شخص في مجالات الزراعة واستخراج الفحم، كجزء من جهود إعادة الإعمار الاقتصادي. ورغم ذلك، عانت البلد من نقص حاد في المواد الغذائية ومصادر الطاقة. ومع ذلك وفي فترة لا تتجاوز ثلاثة عقود، تحولت اليابان من دولة منكوبة إلى إحدى أقوى الاقتصادات في العالم، في ما يُعرف عالميا بـ “المعجزة الاقتصادية اليابانية.”
شكّل الشعب الياباني ركيزة أساسية في عملية إعادة الإعمار الوطني بعد الحرب العالمية الثانية، معتمدًا على منظومة من القيم الثقافية والاجتماعية العميقة التي ساهمت على نحو مباشر في تعافي البلدً السريع وتحقيق “المعجزة الاقتصادية.” في وقت كانت فيه أكثر من%40 من المدن مدمّرة والناتج القومي قد تراجع إلى النصف، نهض اليابانيون بروح جماعية مثابرة، عبّرت عنها فلسفة “غامبارو” التي تعني المثابرة والعمل الجاد رغم الشدائد، حيث عمل المواطنون في إزالة الأنقاض يدويًا، كما حدث في هيروشيما وناجازاكي، وساهموا في إعادة تأهيل المصانع والبنية التحتية بشكل تطوعي.
حدثت نهضة اليابان بتضافر عدة عوامل من أهمها الاستثمار في رأس المال البشري وهو عنصر محوري في التنمية حيث برز التعليم والتدريب المهني كأحد أهم ركائز النهضة اليابانية، ساهمت الدولة في تطوير نظام تعليمي فعال، بينما تبنّت الشركات برامج داخلية لتأهيل العاملين، مما أنتج قوى عاملة عالية الكفاءة قادرة على استيعاب التكنولوجيا الحديثة وتطويعها لخدمة الصناعة الوطنية، رغم ولايات الحرب الجارية في السودان، ولكن ينبغي أن يفكر الجميع بصوت عالي في كيفية إعادة إعمار السودان بصورة ذكية، حتى تستمر الحياة، وتكون نهاية الحرب عهداً جديداً لبناء السودان الذي يزخر بموارده الطبيعية، كما أن السودان بلد واعد ومعظم سكانه من الشباب؛ مما يحتم على كل قطاعات المجتمع في السودان الاهتمام برأس المال البشري خاصة تدريب الكوادر كما فعلت اليابان حينما نهضت من الركام إلى القمة.
إعادة الإعمار تتطلب إعداد كوادر مدربة على المستويات جميعها خاصة في المجال المهني والتقني الذي أصبح عماد التطور على الصعيد العالمي، لذا تستعرض هذه المساهمة لمحة عن تاريخ التعليم التقني والمهني في السودان وفرص الاستفادة من بعض الدول مثل ماليزيا واليابان في مجال التعليم التقني والمهني.
التعليم التقني والمهني في السودان: ملامح عامة:
يتبع التعليم التقني والمهني في السودان لإدارة المجلس التقني والتقاني الذي أنشئ في عام 2005م ليضطلع بمهام تطوير هذا القطاع وحسب إحصائيات موقع المجلس الإلكتروني، فإن عدد مؤسسات التعليم التقني والتقاني (صناعي، زراعي، تجاري) بمختلف ولايات السودان بلغ (103) مؤسسة و (24) كلية تقنية، كما بلغ عدد طلاب هذه المؤسسات (19517) طالباً، هذا وتعد جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا والتي يرجع تاريخها إلى عام 1902 رائدة التعليم التقني، وكانت بدايتها مدرسة الخرطوم الفنية ومدرسة التجارة، وفي 1975م تم إنشاء معهد الكليات التكنولوجية الذي ُرّفع ليصبح جامعة في عام 1990م.
واقع التعليم التقني والمهني في السودان يحتاج إلى وقفة متأنية ونظرة ثاقبة لمنحه المزيد من الاهتمام خاصة مراكز التدريب المهني الذي يعود تاريخ بدايته إلى عام 1920م (مدرسة جبيت الفنية) ثم تبع ذلك إنشاء أول مركز تدريب مهني في السودان بالخرطوم في 1957م. ثم تطور التدريب المهني، وتوسع بشكل مطرد بفضل منح قدمتها دولة صديقة للسودان مثل: جمهورية ألمانيا، الصين، كوريا، اليابان وتركيا بالإضافة إلى مساعدات أخرى قدمتها منظمة العمل الدولية، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، منظمة التنمية الصناعية، الوكالة اليابانية للتعاون الدولي وغيرها من المنظمات والوكالات الدولية. الممعن للنظر يرى أنه على الرغم من الحاجة الماسة لهذا النوع من التعليم، إلا أن معظم مراكز التدريب المهني الحكومية القائمة في السودان أنشئت بمنح من دول صديقة للسودان، وهذا إن دل إنما يدل على عدم على الاهتمام الكافي بهذا النوع من التعليم، مما يستوجب إعادة النظر في تطويره ليسهم في إحداث التنمية المطلوبة وإعادة الإعمار، توفير فرص العمل تقليل الاعتماد على العمالة الوافدة ومحاربة البطالة والتقليل من حدة الفقر.
من الأشياء المحزنة جدا أن السودان قبل الحرب، وما زال يفتقر للعمالة الماهرة في عدة قطاعات مثل قطاع الإنشاءات الذي تسوده العمالة الوافدة من بعض الدول مثل سوريا ومصر، وأذكر أن أيام إنشاء خط أنابيب نقل النفط احتاج السودان لاستجلاب عمال لحام مهرة من تايلاند للعمل في هذا المشروع، ملاحظة أخرى وهي بداية إنشاء دار طباعة مصحف أفريقيا بالسودان تم تعاقد مع بعض العمال المهرة في مجال الطباعة من إندونيسيا” وقس على ذلك أن كثيرا من القطاعات الحيوية في السودان يعوزها هذا النوع من الكفاءات المدربة والماهرة. يمكن القول إن التعليم التقني والمهني في السودان طاله الإهمال وعدم الاكتراث لأهميته خاصة مؤخرا وأكيد أن تأثيرات الحرب مست كل مؤسسات التعليم في السودان ناهيك عن ما تبقى من مؤسسات للتعليم المهني والتقني التي عانت الإهمال، وإذا أردنا أن نسلك الطريق الصحيح لإعادة إعمار السودان لابد من الاهتمام بالتعليم التقني والمهني الذي أصبح محط أنظار اهتمام العالم، وأخذ ذلك بعد جديد في حُلة أطلق عليها Technical Vocational Education (TVET) وهي مظلة كبيرة تُعني بتوسيع أطر التعليم التقني والمهني من أعلى مستويات التعليم العالي في الجامعات ثم الكليات الجامعية المتخصصة ثم المعاهد والمدارس إلخ… فما هو لتعليم التقني المهني؟
التعليم التقني المهني:
التعليم التقني والتدريب المهني كما عرّفته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) هو مجال الدراسات التقنية والعلوم ذات الصلة بها، والتي تُكسب مُتلقيها التدريب العملية والمعرفة المرتبطة بالمجال المهني في عدة قطاعات اقتصادية واجتماعية بغية إحداث النمو الاقتصادي والتنمية والازدهار. لذا يعد التعليم التقني والتدريب المهني من أهم دعائم تنمية الموارد البشرية خاصة في ظل الثورة الصناعية والتقنية التي يشهدها العالم الذي أصبح يتحدث عن الثورة الصناعية الرابعة (سيادة الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والسيارات ذاتية القيادة، والطابعات الثلاثية الأبعاد، والبيانات العمالقة، والعملات الافتراضية، وإنترنت الأشياء، والنانو تكنولوجي، والبيو تكنولوجي، وتخزين الطاقة، والحوسبة الكمية)، لذلك هنالك حاجة ماسة إلى عمالة ماهرة وفنيين في مختلف مجالات سوق العمل. وتأسيسا على ذلك أولت دول كثيرة عنايتها بهذا المجال من خلال الاستثمار في العقول والأيادي الماهرة، وصار بذلك رأس المال البشري من أهم الثروات التي يُعول عليها في العصر الحالي.
يتواصل…….



