رأي

الفاشر… تقاطع الجغرافيا والروح والسياسة

عبدالعزيز يعقوب

الفاشر ليست مدينة عابرة في تضاريس دارفور، بل هي قلب نابض تختلط فيه الرمال بالدم، والتاريخ بالذاكرة، والروح بالسياسة.

هي المدينة التي حملت عبق السلاطين، واحتضنت أول مجلسٍ للعقل والسلطة في الغرب، وكانت دائمًا مرآةً لما يدور في روح السودان حين تضطرب أحواله.

على ترابها مرت قوافل الحجيج والعلم والتجارة، وفيها وُلدت الفكرة، واشتعلت الثورة، وسُقيت الأرض بدماء عزيزة رفضت أن تركع للمستعمر أو للطغاة.

أتعجب، بل أندهش، كيف يمكن بعد كل هذه التقاطعات في الجغرافيا والروح والسياسة أن ترى من لا يزال مأخوذًا بسطور الكراهية القديمة.

أناس ربما ضاقوا ذرعًا بتجربة الإسلاميين، أو اكتووا بظلم الإنقاذ، أو امتلأت صدرهم بشبهات الليبرالية المغشوشة، حتى عميت بصيرتهم عن رؤية الصورة الكاملة.

يعتقدون بأنهم قد شهدوا بأنفسهم كل فظائع المليشيا المتجددة، وكل ما عانى منه أهلنا من نزوح ولجّوء وجوع ومعاناة في الحل والترحال، ومع ذلك تتهلل وجوههم فرحًا حين يسمع أن الفاشر — مدينة السلطان ومحراب التاريخ — قد سقطت في يد تلك العصبة التي جعلت من الفوضى منهجًا ومن النهب عقيدة.

الفاشر التي أنهكها الحصار لأكثر من عامين، وأكثر من ٢٧٠ هجومًا مدفعيًا وصاروخيًا، والطائرات تحوم فوقها كظلّ الموت، تُستنسخ فيها المأساة بالطريقة ذاتها التي قسّمت ليبيا.

ولعل بعض العقول لقادة سودانيين وداعمين من الخارج تظن أنها تفكر “سياسيًا” وهي تدعم المليشيا، وتتوهّم أن محاولة موازنة القوى في هذه المعركة قد تجبر الشعب وقواته المسلحة على الجلوس مع تلك الفئة المتمردة، لأنهم لا يقرؤون التاريخ، ولا يدركون أن من يزرع الفوضى لا يحصد سوى الخراب والرماد.

والمهتمين بالتاريخ الأمريكي يعلمون أن الولايات المتحدة شهدت حربًا أهلية طويلة استمرت خمس سنوات، أودت بحياة أكثر من ٦٠٠ ألف شخص. رغم طول المعاناة، لم تُهدر الدولة فرصتها في استعادة النظام إلا بعد استسلام القوات المتمردة، دون مهادنة مسبقة، ولم يتبع ذلك عفو عام شامل بل محاكمات لضمان العدالة والاستقرار. هذه الواقعة تؤكد أن استعادة الدولة تحتاج حسمًا وحزمًا لا المساومة مع الفوضى.

قد رأيتم كيف قُتل الأبرياء من أبناء شعبي وهم عُزّل في تراجيديا هذا القرن في الفاشر، وقد شاهد العالم كله ذلك إلا من أبى أن يرى.

فهل يظن الذين يرفعون شعار “لا للحرب” بلا آلية ولا رؤية، أن الشعارات وحدها توقف نزيف الوطن؟

أم ينتظرون أن يأتي الآخرون ليجدوا لنا الحلول؟

ولو كان المجتمع الدولي يسمع أنين الأمهات وصراخ الأطفال ودماءهم التي تعطر هذا الكوكب، لفعل شيئًا في العراق وأفغانستان وليبيا وأوكرانيا وأفريقيا الوسطى وفلسطين الحرة.

لكنّهم تحركهم مصالحهم لا مشاعرهم، ومن باب أولى لنا نحن — شعب السودان — أن نعرف مصالحنا، وأن نضع خلافاتنا جانبًا ونستعيد وطننا أولًا.

فلنضع خلافاتنا جانبًا، ولنستعد السودان أولًا إن كنّا نعقل ونتفكّر، حتى نجد مكانًا للسياسة والحكم والحياة نفسها، وسيتكرر ما فعله تتار العصر إذا لم نتحد ونعطي قيادة الجيش والدولة كامل الثقة لاسترداد الأرض واستتباب الأمن ، حتى وإن كان لنا تحفظات أو اعتراضات أو رؤية مختلفة نرجيها ونرتب الأولويات لكي لا يتكرر ما حدث في الجزيرة والخرطوم والفاشر اليوم.

لهؤلاء جميعًا أقول:

اطمئنوا إن كنتم تظنون أن في استيلاء المليشيا خلاصًا، فذلك وهمٌ كبير؛ فسلوكها طبع لا يتغيّر، ومنهج حياة لا يُستبدل ولا يعتدل إلا بعلاج نفسي مكثف.

لأنها لا تعرف وطنًا إلا ما يُنهب، ولا سلطةً إلا ما يُغتصب، ولا قانونًا إلا البندقية.

وأؤكد بثقة ويقين لا يزعزعه الضجيج، أن الله سينصر هذا الشعب الأبيّ، مهما تزلزل بعض أبنائه، ومهما عميت الأبصار بين الكراهية والخلاف والجهل.

فالفاشر التي واجهت جيوش الاستعمار، واحتضنت سلطانًا قاوم حتى استُشهد، لن تذلّ لمليشيا ولا لطغيان.

و ستعود كما كانت رمز للعزة والصمود والعدل والكرامة والكبرياء حين تتطهر الأرض من دخان البنادق المأجورة ويستعيد الشعب وعيه وقراره.

وفي الختام، أوجّه رسالتي إلى كل من انشغل بالأحزاب، أو انغمس في دهاليز النظام السياسي يسعي بالخير لإصلاح حياة الشعب، أو حمل البندقية في الجيش يدافع عن الأرض والعرض، أو عمل في مؤسسات الخدمة المدنية خادما للمواطن

إن وجود السودان نفسه هو الشرط الأول لإصلاح كل ذلك.

فليس للأحزاب معنى إن ضاع الوطن، ولا للنظام السياسي شرعية إن تهدمت الدولة، ولا للجيش دور إن فقد الوطن ساحته، ولا للخدمة المدنية جدوى إن انطفأ بيتها الكبير.

فلنضع خلافاتنا جانبًا، ولنستعد السودان أولًا، إن كنّا نعقل ونتفكّر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى