لم يعد سرّاً

عمر محمد عثمان
لم يعد سرّاً أن ثمّة تحركات دولية وإقليمية تجري على قدم وساق لإيقاف الحرب في السودان وإحلال السلام. فبعد شهورٍ طويلةٍ من حربٍ طاحنة أشعلتها مليشيا الدعم السريع المتمردة الإرهابية ضد الدولة والشعب، بدأت الدبلوماسية الدولية تتحرك بجدية، محاولةً رسم ملامح المرحلة القادمة.
التحركات الأخيرة لم تكن عادية، بل بدت أقرب إلى سباقٍ محمومٍ بين القوى الفاعلة في الإقليم والعالم، فقد قام كبير مستشاري الرئيس الأمريكي للشؤون العربية والأفريقية، مسعد بولس، بجولةٍ مكوكية شملت مصر وتشاد، التقى خلالها الرئيس عبدالفتاح السيسي في القاهرة، ثم الرئيس التشادي في روما، بحضور وزير الدولة للخارجية السعودي. وجاءت تصريحاته بعد تلك اللقاءات لتكشف أن الملف السوداني بات في صدارة اهتمامات واشنطن، إذ قال إن بلاده “تعمل على بلورة رؤية شاملة لإحلال السلام في السودان بما يحفظ وحدة أراضيه ويمنع تمدد النزاع إلى دول الجوار”. وهي إشارة واضحة إلى أن السودان لم يعد ملفاً هامشياً في حسابات القوى الكبرى.
وفي الخرطوم، جاءت تصريحات وزير الخارجية السفير محي الدين سالم بعد عودته من القاهرة لتمنح المشهد بُعداً إضافياً، حين قال: “إن مبادرة الرئيس الأمريكي التي أوقفت القتال في غزة يمكن الاستفادة منها لإيقاف الحرب في السودان.” عبارة قصيرة لكنها تحمل بين طيّاتها إدراكاً عميقاً بأن السلام في السودان لا يمكن فصله عن مجمل التوازنات الإقليمية والدولية.
أما اللقاءات السودانية المصرية المتكررة على مستوى رئيسي الدولتين، فقد أكدت تطابق الرؤى بين البلدين حيال وحدة السودان واستقراره، وإيمان القاهرة الراسخ بأن أمن السودان من أمنها القومي. ويمكن القول إن مصر ظلّت “المفاوض الأمين” نيابةً عن السودان في المحافل التي غاب عنها صوته، كما حدث في مؤتمر لندن في يناير 2025، حين رفض الوفد المصري تمرير بيانٍ ختاميٍ لا يراعي الموقف الرسمي السوداني، مما أدى إلى تعطّل صدوره بالكامل. ذلك الموقف لم يكن شكلياً، بل رسالة واضحة بأن القاهرة لا ترى في السودان سوى دولة يجب أن تبقى موحّدة قوية، لا ساحةً لتقاسم النفوذ.
وبالطبع نلحظ أن التصريحات الرسمية من القيادة السودانية بشأن هذه التحركات ما زالت قليلة ومقتضبة، وهو أمر طبيعي في مثل هذه الملفات الحساسة. وفي تقديري، إنهم الآن في مرحلة الاستماع، تليها مرحلة التفكير وتمحيص الخيارات، حتى يأتي الرد السوداني الرسمي شاملاً ومتأنياً، متبنياً ما يحقق مصلحة البلاد وشعبها. وفي الوقت ذاته، نرى اهتمام القيادة المتواصل بالجبهة العسكرية وتوفير الدعم اللازم لها، ما مكن الجيش من تحقيق انتصارات كبيرة في كردفان، وإنجاز عمليات إسقاطٍ متتالية للمدن المحاصرة في دارفور، الأمر الذي يعزز موقف الدولة في أي مفاوضات سلام قادمة.
لكن خلف هذا الحراك الدبلوماسي، يظل السؤال الجوهري الذي يشغل وجدان السودانيين: ما هي أجندة هذا السلام؟ وماذا عن مصير مليشيا الدعم السريع المتمردة الإرهابية التي ارتكبت أبشع الجرائم بحق المواطنين؟
إن السودانيين يرون أن أي تسوية لا تشمل حلّ هذه المليشيا، وتقديم قادتها للعدالة، وتعويض الضحايا والمتضررين، لن تُكتب لها الشرعية ولا الدوام. فسلامٌ يُساوي بين الجلاد والضحية لا مكان له في الوجدان الوطني، ومصالحة تُبنى على الإفلات من العقاب لا تؤسس لدولة العدل والقانون.
ويبقى السؤال الآخر: من الذي سيدفع فاتورة الحرب؟
هل هي الدولة التي أنهكتها الحرب؟ أم الأطراف الخارجية التي موّلت وسلّحت المليشيا؟ من الطبيعي أن يطالب السودانيون بأن تكون محاسبة هذه الأطراف جزءاً من عملية السلام، لأن من أشعل النار هو من يجب أن يطفئها، ومن موّل الحرب عليه أن يتحمل كلفة إعادة الإعمار والتعويضات.
إن ما يجري الآن من حراكٍ دبلوماسي لم يعد سرّاً، لكنه لن يبلغ غايته إلا برؤيةٍ سودانيةٍ خالصة، تُعبّر عن تضحيات الشعب وتطلعاته، وتُعيد للبلاد سيادتها وكرامتها. فالسودان اليوم لا يحتاج إلى مزيدٍ من الوسطاء بقدر ما يحتاج إلى ضماناتٍ حقيقيةٍ لوقف الحرب، وإعادة الإعمار، وعودة النازحين إلى ديارهم، وبناء دولةٍ حديثة لا مكان فيها للمليشيات ولا لسطوة السلاح خارج القانون. حينها فقط، يمكن القول إن السلام لم يعد وعداً مؤجلاً، بل واقعاً يصنعه السودانيون بأيديهم، لا يُملى عليهم من الخارج.



