رأي

الرأسمالية الوطنية وإنتاج الفشل تفكيك بنية الاقتصاد السوداني وكشف المستور

محمد الحاج

يمتلك السودان ثروة طبيعية هائلة، من أراضٍ زراعية خصبة، ومياه وفيرة، وموارد معدنية غنية. إلى جانب موقع جغرافي إستراتيجي يؤهله ليكون مركزاً اقتصادياً إقليمياً وعالمياً. ومع ذلك، فإن الواقع الاقتصادي يكشف عن منظومة مختلة، عاجزة عن تحويل هذه الإمكانيات إلى تنمية مستدامة فـالرأسمالية الوطنية بدلاً من أن تكون أداة للنهوض، تحولت إلى رأسمالية طفيلية مدفوعة بمنطق الربح السريع، تغذيها المحسوبية والفساد الإداري، وتُدار في غياب التخطيط مما أدى إلى إنتاج القيمة بدلاً من بناء اقتصاد متكامل.

القطاعات الإنتاجية في السودان وعلى رأسها الزراعة تعاني من التهميش رغم أنها تمثل العمود الفقري للاقتصاد. ضعف البنية التحتية، غياب التكنولوجيا، وتذبذب السياسات الحكومية جعلت من الزراعة قطاعاً غير مستقر. أما الصناعة فهي شبه غائبة، وتفتقر إلى الرؤية الإستراتيجية التي تربطها بالمواد المحلية. القطاع الخاص الوطني الذي يُفترض أن يكون محركاً للنمو، يواجه عراقيل بيروقراطية، وبيئة طاردة للاستثمار، نتيجة لغياب الحوافز، وانعدام الثقة في مؤسسات الدولة.

الرأسمالية السودانية لم تُبنَ على أساس الإنتاج، بل على المضاربة والاستهلاك. إنها رأسمالية طفيلية تقتات على الاستيراد، وتفعيل الربح السريع على الاستثمار طويل الأجل. هذا النمط الاقتصادي لا يُنتج قيمة مضافة، ولا يخلق فرص عمل مستدامة، بل يُكرِّس التبعية ويضعف القدرة على الصمود أمام الأزمات. التنقيب العشوائي عن الذهب مثال صارخ، حيث أدى إلى تدمير قطاعات منتجة مثل الزراعة والرعي، وخلق اقتصاداً ريعياً هشاً، غير قادر على الاستدامة أو التوسع.

الأزمة لا تتوقف عند حدود الرأسمالية الطفيلية، بل تتعمق بفشل الفساد الإداري والمحسوبية داخل مؤسسات الدولة. فالمناصب تُمنَح على أساس الولاء لا الكفاءة، والمشروعات تُدار دون شفافية أو رقابة، مما أدى إلى هدر الموارد، وتضخم الإنفاق غير المنتج، وتآكل الثقة في الدولة. هذا الفساد البنيوي لم يعطّل فقط حركة التنمية، بل خلق طبقة من المتنفذين الذين يعرقلون أي إصلاح حقيقي، وتُعيدون إنتاج الفشل في كل دورة اقتصادية.

غياب التخطيط الإستراتيجي هو الآخر عامل حاسم في هذا الانهيار، فالموازنات تُدار بمنطق رد الفعل، والمشروعات تُطلق دون دراسات جدوى، والسياسات الاقتصادية بمعزل عن الواقع الإنتاجي، لا توجد رؤية تربط الموارد بالقطاعات، ولا توجد مؤسسات قادرة على التنسيق بين الفاعلين الاقتصاديين. والنتيجة هي اقتصاد مفكك غير قادر على التكيف أو النمو.

المشروع الوطني الذي حمل شعار نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع لم يكن سوى واجهة خطابية. تم تدميره من الداخل على يد من رفعوه. فقد تحوّل إلى شعار دعائي، بينما استمرت الدولة في استيراد الغذاء والملابس، وتجاهلت دعم الزراعة والصناعة، بل إن بعض من تبنوا هذا الشعار كانوا أول من تخلّوا عنه عملياً، مما كشف التناقض بين الخطاب والممارسة، وأسهم في تقويض الثقة الشعبية في أي مشروع تنموي.

وجاءت حرب 15 إبريل لتكشف هشاشة البنية الاقتصادية بشكل صارخ. فقد انهارت سلاسل الإمداد، وتوقفت حركة الإنتاج، وانهارت العملة، وتفككت مؤسسات الدولة. لم تصمد أي بنية اقتصادية أمام الصدمة، ولم يظهر أي احتياطي استراتيجي أو قدرة على التكيف. بل إن الرأسمالية السودانية، التي لطالما ادعت الوطنية، سارعت إلى الهروب نحو الخارج، بحثاً عن الأمان المالي في المصارف الأجنبية والعقارات الخارجية، تاركة خلفها فراغاً اقتصادياً عميقاً. هذا الهروب الجماعي كشف الطبيعة الحقيقية لهذه الرأسمالية: لا ترتبط بالإنتاج، بل تعيش على هوامش الاستيراد والمضاربة، وتفر عند أول اختبار حقيقي.

لإحداث تحول جذري، لا بد من تبني مشروع وطني اقتصادي يقوم على:

إعادة هيكلة القطاع الزراعي وربطه بالصناعات التحويلية.

تحفيز القطاع الصناعي عبر إنشاء مناطق إنتاجية وتقديم حوافز حقيقية.

تنظيم قطاع التعدين وتحويله إلى صناعة مستدامة تراعي البيئة والاقتصاد.

مكافحة الفساد الإداري والمحسوبية عبر إصلاح مؤسسات الدولة وتفعيل الرقابة.

إرساء منظومة تخطيط اقتصادي فعالة تعتمد على البيانات والدراسات الواقعية.

بناء شراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص تقوم على الثقة والشفافية.

وضع استراتيجية وطنية للتنمية تراعي خصوصية السودان وتُحدد أولويات الاستثمار.

إن فشل الرأسمالية السودانية ليس مجرد تعثر اقتصادي، بل نتيجة لتراكمات من الفساد، غياب التخطيط، وانعدام الإرادة السياسية. المطلوب اليوم ليس إصلاحاً شكلياً، بل إعادة بناء النموذج الاقتصادي من جذوره، على أسس الإنتاج، العدالة، والحوكمة الرشيدة. فقط حين يتحول الاقتصاد من الريع إلى الإنتاج، ومن المحسوبية إلى الكفاءة، يمكن الحديث عن تنمية حقيقية تُخرج السودان من دائرة الفشل إلى أفق الاستقرار والازدهار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى