الدبلوماسية الضبابية: السودان بين خطابٍ رماديٍّ ومشروع نفوذٍ إقليمي

صباح المكّي
ليست الدبلوماسية مجرّد كلماتٍ تُقال على المنابر، بل مرآةٌ للسيادة حين تشتدّ العواصف. وفي زمنٍ يتعرّض فيه السودان لمحاولة تفكيكٍ ناعمةٍ تحت عناوين «الوساطة» و«السلام»، يُخاض الصراع بالكلمة قبل السلاح؛ فتتحوّل اللغة إلى جبهةٍ موازيةٍ للقتال. وحين يختار بعض الدبلوماسيين لغةً رماديةً ضبابيةً على الوضوح، تصبح السيادة أولى ضحايا البلاغة.
ليست كلّ الحروب تُخاض بالسلاح؛ فبعضها يُخاض بالكلمات، بالبيانات، وباللغة التي تُعيد تعريف الجريمة حتى يفقد المجرم اسمه. في المقابلة الأخيرة على شاشة «الجزيرة مباشر»، ظهر وزير الخارجية السوداني الأسبق، سعادة السفير علي يوسف، ليقدّم ما ظنّه حديثًا «عقلانيًا» عن الحرب السودانية، مُلبسًا إياها ثوب «الحرب الأهلية» عبر مقارنتها بالحروب الداخلية السابقة في السودان. فهل يرى سعادة الوزير حقًا أنّ هذه الحرب حربٌ أهلية، وليست عدوانًا خارجيًا بأدواتٍ محلية، تُقاتل فيه مليشيا مدعومةٌ من الخارج جيشًا وطنيًا يحمي سيادته؟
بهذا الطرح، لم يُقدّم الوزير تحليلًا سياسيًا متّزنًا، بل جسّد أزمة الوعي الدبلوماسي السوداني في أكثر صورها التباسًا: أن تتحدث عن وطنٍ يُذبح بلسانٍ خائفٍ من تسمية الذابح. في زمنٍ يخوض فيه السودان حربًا وجوديةً ضد مليشيا مدعومةٍ من الخارج، يصبح الخطاب السياسي اختبارًا للانتماء قبل أن يكون رأيًا شخصيًا؛ فاللغة لم تعد وسيلةَ تواصل، بل ساحةَ حربٍ موازيةٍ تُحسم فيها المعاني كما تُحسم المعارك.
ومن هنا جاءت مقابلة وزير الخارجية السوداني الأسبق لتكشف حجم الهوّة بين الخطاب الوطني الصريح والخطاب الرمادي الذي يحاول إرضاء الجميع في لحظةٍ لا تحتمل المواربة.
لِمَن يتحدث الوزير؟
خرج علينا السفير علي يوسف، وزير الخارجية السوداني الأسبق، على شاشة «الجزيرة مباشر» متوشّحًا شخصية «ود المويه» في مقابلةٍ رماديةٍ «لا تُعرف لها رأسٌ من قعر»، يتحدث فيها كمن «يفلق ويداوي»؛ كلامٌ كثير بلا موقف، وعباراتٌ دبلوماسيةٌ تلامس كلَّ الأطراف ولا تلتصق بأيٍّ منها.
بدا خطابه منسجمًا مع الرؤية الدبلوماسية السائدة في بعض العواصم العربية، تلك التي تُفضِّل الصمت حيال أدوار الإمارات في الحرب على السودان، وتطرح «الحياد» كمخرجٍ سياسيٍّ آمن. غير أن هذا الحياد المزعوم يتجاهل حقيقةً أساسيةً؛ وهي أن السودان يخوض حربًا مفروضةً عليه، لا نزاعًا بين شركاء متخاصمين على السلطة.
بدت كلماته خليطًا من المسايرة والإنكار؛ لا هي دفاعٌ عن السودان ولا اعترافٌ بالواقع، وكأنه يتحدث من خارج البلاد لا من قلبها.
السؤال الذي يفرض نفسه منذ الدقيقة الأولى: لِمَن يتحدث الوزير؟ أإلى شعبٍ يُقاتل من أجل بقائه، أم إلى جمهورٍ عربيٍّ يُريح ضميره بسماع لغةٍ رماديةٍ لا تُغضب أحدًا؟ أم تحدّث من منظورٍ بات متأثرًا بالمحيط الإقليمي الذي يقيم فيه؟ هل يعبّر عن ضمير الدولة التي خدمها، أم عن دبلوماسيةٍ خجولةٍ لا تريد إغضاب العواصم التي ما زالت تتعامل مع السودان كـ«ملفّ» لا كدولة.
في لحظةٍ كان يُفترض فيها أن يتحدث كرجل دولةٍ يعرف ثمن السيادة، اختار الوزير الأسبق لغة المهادنة. وصف مشاركة الإمارات في «الرباعية» بالإيجابية، رغم علمه أن السودان قد صنّفها رسميًا دولةَ عدوانٍ وقطع علاقاته الدبلوماسية معها.
تجاهل أنها الدولة التي تقود الحرب فعليًا على السودان من وراء ستار، عبر مليشياتها الدعم السريع التي تمدّها بالسلاح والمال والمرتزقة. وتجاهل أيضًا أنها الدولة التي تحاصر السودان عبر جيرانه، بعد أن جنّدت أنظمةً إقليميةً لتوفير ممرّاتٍ آمنةٍ للسلاح القادم من تشاد وليبيا وأفريقيا الوسطى وإثيوبيا وجنوب السودان، فضلًا عن تجييش الإقليم من كينيا وأوغندا وتسفير المرتزقة عبر بوصاصو في بونتلاند وأرض الصومال، وصولًا إلى المرتزقة الكولومبيين الذين جُلبوا بطائرات إماراتية.
كلّ ذلك تجاهله الوزير وكأنه لا يرى المشهد الإقليمي الموجَّه ضد الجيش السوداني والشعب السوداني. تجاهل أن دماء المدنيين في دارفور ليست موضوعًا للمجاملة، وأن الشعب السوداني يرفض أي تسويةٍ تُبيّض صورة من أشعل الحرب عليه.
مفارقة التقسيم والرباعية: خارطةُ
طريقٍ أم خارطةُ نفوذ؟
بدأ الوزير من حيث أراد الآخرون أن يبدأ؛ من «بيان الرباعية» الذي يضمّ الولايات المتحدة، ومصر، والسعودية، والإمارات. وصفه بأنه خارطةُ طريقٍ قابلةٌ للبناء عليها، بل وذهب أبعد حين قال إنها امتدادٌ «لخارطة الطريق التي قدّمتها حكومة السودان». لكن هذه الجملة وحدها كافيةٌ لقياس المسافة بين منطق الدولة ومنطق التبعية. فكيف تكون خارطةٌ وطنيةٌ هي نفسها خارطةً صاغها الخارج؟ وكيف يُبنى على مبادرةٍ تشارك فيها دولةٌ متهمةٌ بتمويل المليشيا نفسها التي تحارب الجيش؟
المفارقة أن الوزير نفسه أقرّ بأن الإمارات «موضع انتقاد»، لكنه عاد ليقول إن مشاركتها «مفيدة» لأنها «تُلزمها بما توقّع عليه». أيُّ منطقٍ هذا؟ منذ متى يُلزم المموِّلُ نفسَه؟ هذه ليست براعةً سياسية، بل تجميلٌ للعجز؛ فالمتّهم لا يصبح ضامنًا إلا حين يُغسل دوره تحت لافتة الوساطة. أما المفارقة الأعمق، فهي أن تفاؤله بُني على المادة الخامسة التي تنصّ على «وقف الدعم العسكري للأطراف المتحاربة». قرأها الوزير كأنها إنذارٌ موجَّهٌ إلى الإمارات لوقف تمويل وتسليح المليشيا، بينما النصّ لا يذكر الإمارات أصلًا ولا يفرّق بين من شنّ العدوان ومن دافع عن وطنه. فهو يستخدم مصطلح «الأطراف المتحاربة» بصيغةٍ فضفاضةٍ تُساوي بين الجيش الوطني والمليشيا المتمرّدة؛ ما يعني ضمنًا أن أيَّ دعمٍ عسكريٍّ أو لوجستيٍّ للجيش نفسه سيُعدّ انتهاكًا. بهذا المنطق، يُراد من الجيش الشرعي أن يتوقف عن الدفاع عن بلده، بينما تواصل المليشيا تلقّي السلاح عبر قنواتٍ سرّيةٍ وشبكات تمويلٍ خارجية.
وهنا يظهر جوهر الخلل في قراءة الوزير: إذ جعل من بندٍ مُلتبسٍ، صيغ أصلًا لتقييد السودان، دليلًا على «حسن نية» المموِّل. فكيف يُفهم البند الذي يمنع الدولة من التسلّح بينما يغضّ الطرف عن سلاح المرتزقة؟ أليس ذلك تجريدًا مقنّنًا لسيادة السودان تحت عنوان السلام؟
ويعترف الوزير بوجود مساعٍ خارجيةٍ قديمةٍ لتقسيم السودان، لكنه يتجاهل أن هذه المساعي نفسها تجد غطاءً دبلوماسيًا في مبادرات الرباعية؛ ثم يدعو في الوقت نفسه إلى «التفاعل الإيجابي» مع الرباعية التي تضم أطرافًا شاركت فعليًا في هذا المشروع. فاثنان من رعاة الرباعية يسعيان عمليًا إلى تفكيك السودان: الولايات المتحدة التي قادت فصل الجنوب عام ٢.١١ تحت لافتة «الحق في تقرير المصير»، والإمارات التي تموّل اليوم مشروع تقسيم دارفور عبر مليشيا الدعم السريع. الإمارات ليست سوى مخلبِ قطٍّ في هذا المشروع؛ فلا هي دولةٌ ذات تاريخٍ أو جغرافيا أو ديموغرافيا تؤهلها للعب هذا الدور، بل مجرّد واجهةٍ للقوى الغربية التي تستخدمها لتنفيذ ما لا تريد أن تُنسبه مباشرةً إليها.
فكيف نحارب التقسيم ونحن نسلّم ملفّنا السياسي لأطرافٍ تشارك في تمويل الحرب؟ هذا هو منطق الازدواجية الدبلوماسية؛ أن نرفض الهيمنة في الخطاب، ثم نخضع لها في الممارسة. إنّ الحديث عن «صلابة الداخل» لا يكفي حين يُعطى الخارج دور الحكم، والمموِّل دور الوسيط. ما قدّمه الوزير لم يكن قراءةً دبلوماسية، بل تسويغًا ناعمًا لاتفاقٍ يساوي بين الجيش والمليشيا، ويمنح المتورطين غطاءً قانونيًا يعفيهم من المساءلة. فحين يصبح الجاني شريكًا في صياغة «ميثاق العدالة»، فإننا لا نكتب طريق السلام، بل نمهّد لطريقٍ جديدٍ من الوصاية والابتزاز السياسي.
اللغة كأداةٍ للشرعنة
حين سُئل الوزير عن تعبير «الأطراف المتحاربة»، قال إنها «صيغة دبلوماسية» لا تعني مساواةً بين الجيش والمليشيا. لكن الكلمات ليست بريئة؛ فهي التي ترسم حدود الشرعية وتحدّد موقع الدولة بين الشرعية والمتمرّد. فمن اللحظة التي يتحوّل فيها العدوانُ المفروض على السودان إلى «نزاعٍ بين أطراف»، تُمحى الجريمة من السرد ويُسحب من الجيش تعريفُه كقوةٍ وطنيةٍ شرعية؛ ليُعاد تقديمُه كأحد «الأطراف السودانية المتنازعة».
السؤال الذي لم يُطرح في المقابلة هو ذاته الذي يفرض نفسه اليوم: لماذا لا تُستخدم الصيغة نفسها عند الحديث عن الحرب الروسية–الأوكرانية، أو عن الاحتلال الإسرائيلي لغزة؟ لأن المصطلح ليس دبلوماسيًا بقدر ما هو سياسي؛ يُستخدم وفق مزاج القوة الكبرى وخدمة أجنداتها لتخفيف مسؤولية الجاني ومساواة الدولة بالمليشيا.
بهذا المعنى، فإن «الأطراف المتحاربة» ليست وصفًا محايدًا، بل أداةً ناعمةً لنزع الشرعية عن السودان، وتهيئة الوعي الدولي لتقبّل فكرة أن سيادته «قابلةٌ للتفاوض» لا للحماية.
سلامٌ بلا ميزان قوى
يردّد الوزير أن «لا حلَّ عسكريًا مستدامًا»، ثم يضيف: «إن أمكن الحسمُ السريع فبها». في هذه العبارة الصغيرة تتكثّف فلسفةُ الضباب؛ نفيٌ وإثباتٌ معًا، وكأن الموقف السياسي يمكن أن يكون توفيقًا بين النصر والهزيمة. لكن السلام لا يُصنع بالتمنّي، بل بميزان القوة. فالولايات المتحدة نفسها التي تقدّم للعالم دروسًا في «الدبلوماسية» أعلن رئيسُها الحالي دونالد ترامب إعادة اسم «وزارة الدفاع» إلى «وزارة الحرب»؛ إيمانًا بأن السلام لا يتحقق إلا بالقوة. وإسرائيل، من جانبها، ترفع الشعار ذاته: «السلام عبر التفوق العسكري». فلماذا يُطلب من السودان وحده أن يُلقي سلاحه بينما تُغذّى المليشيا بالسلاح والمال والمرتزقة؟
ومع أن الوزير أقرّ بوجود مبادراتٍ كثيرةٍ للسلام، فإنه لم يتوقف عند سؤالٍ جوهري: لماذا فشلت جميعها؟ لم يذكر أن السبب لا يكمن في غياب المبادرات، بل في غياب الإرادة لدى المليشيا نفسها، التي رفضت الالتزام حتى بقرارات مجلس الأمن، واستمرت في ارتكاب الجرائم ضد المدنيين. فكيف يُبنى السلام مع من يواصل القتل والنهب والانتهاكات الممنهجة؟ إنّ الإصرار على ترديد الشعارات الرومانسية عن “السلام الشامل” بينما الميدان يشتعل بالنار والدم، ليس رؤيةً سياسية، بل هروبٌ من الواقع. إنّ هذه اللغة الحالمة المنفصلة عن وقائع الأرض تتجاهل الحقائق الواضحة: أن المليشيا لا تريد سلامًا، وأن ممولها الإقليمي، الإمارات، لا يبحث عن استقرار السودان، بل عن إخضاعه لمشروع نفوذٍ طويل الأمد يُبقيه ضعيفًا ومجزّأً. هذا ليس سلامًا، بل استسلامٌ مغلّفٌ بلغةٍ أممية. فالسلام الحقيقي لا يصنعه الخطاب، بل تفرضه الوقائع في الميدان. كلُّ التجارب التي يستشهد بها الوزير؛ من الحرب العالمية إلى البوسنة، انتهت بالمفاوضات بعد أن تغيّر ميزانُ القوى عسكريًا، لا قبلها.
أما الدعوةُ إلى «الجلوس إلى الطاولة» قبل استعادة السيطرة على الأراضي والمطارات التي ما زالت تتلقّى الطائرات من الخارج؛ فهي ببساطة تجميدٌ لحالةٍ غير متوازنةٍ تُبقي السلاح في يد المليشيا وتُقيّد الجيش عن استكمال مهمته. بل هي، في جوهرها، محاولةٌ لمدّ المليشيا بأوكسجينٍ مؤقتٍ يساعدها على الاستمرار في القتال في ظل تقدّم الجيش ومحاولة كبح انتصاراته. وفي حقيقة الأمر، ليست هذه الدعوات بحثًا عن السلام أو إنهاءً للحرب؛ بل إدارةٌ مدروسةٌ لها بحيث لا يخرج الجيشُ السوداني منها منتصرًا.
سراب الدمج وغفران الجريمة
حين قال الوزير: «لا بقاءَ للدعم السريع كقوةٍ موازية، ولا يمكن للسلام أن يتحقق بوجوده»، بدا للحظة أنه ينطق بموقفٍ وطنيٍّ واضح؛ لكن التناقض سرعان ما ظهر في الجملة التالية: إذا كان لا حلَّ عسكريًا ولا بقاءَ للدعم السريع، فكيف سيختفي إذن؟ هل سيختفي بـ«طاقية الإخفاء»؟ أم بمسح الذاكرة الوطنية عمّا فعله من جرائم؟
ثم عاد ليقول إن الحل هو «جيشٌ مهنيٌّ واحدٌ تنضوي تحته كلُّ الحركات المسلحة». فهل كان بذلك يلمّح، بطريقةٍ غير مباشرة، إلى دمج قوات الدعم السريع داخل الجيش الوطني؟
إن منح المليشيا ممرًّا سياسيًا باسم «الدمج وإعادة الهيكلة» ليس إصلاحًا مؤسسيًا؛ بل غفرانٌ سياسيٌّ بلا محاكمة؛ تسويةٌ مع الجريمة تحت لافتة «الوحدة الوطنية». أيُّ منطقٍ هذا؟ كيف يُدمج من ذبح المدنيين وجلب المرتزقةَ من تشاد والنيجر وأفريقيا الوسطى وكولومبيا ومن كل أصقاع الأرض. وكيف يُعاد تأهيل من حوّل الخرطوم إلى رماد؟
من يدمج القاتلَ في جسد الدولة إنما يزرع الفساد في قلبها، ويحوّل العدالةَ إلى مطيّة. إن هذا الخطاب لا يقدّم رؤيةً للسلام؛ بل وصفةً لإعادة إنتاج الخطر تحت مسمّى «المهنية» و«الاستقرار».
من دمّر البلاد؟ الفاعل الغائب في الخطاب
تحدّث الوزير عن «الدمار الذي أصاب المنشآت» دون أن يذكر من دمّرها؛ كأنّ الخرطوم انهارت بفعل الزلازل لا بفعل صواريخ المليشيا. إلغاءُ الفاعل هنا ليس زلةً لغوية؛ بل تواطؤٌ ذهنيٌّ مع الرواية التي تُساوي بين المعتدي والمدافع.
من الذي فجّر محطاتِ الكهرباء والمياه؟ من نهب المصارفَ والذهب؟ من أحرق المستشفياتِ والمخازن؟ ليس الجيشَ السوداني، بل من يُراد اليوم دمجُه فيه باسم «الوحدة الوطنية». إنّ حذف الفاعل من الجملة هو حذفٌ للعدو من الوعي؛ جريمةٌ لغويةٌ تُشبه الصمت السياسي، إذ تجعل المجرم مجهولًا وتحوّل الضحية إلى رقمٍ في تقريرٍ إنسانيٍّ بارد.
ضدّ الإقصاء… حتى لمن خان!
يتحدّث الوزير عن رفض «الإقصاء الشامل» ويدعو إلى «حوارٍ مع الجميع». لكن ما معنى هذا المبدأ إذا شمل مَن موّل الحرب، ومَن غطّاها إعلاميًا، ومَن شارك في ذبح المدنيين؟ أيُّ حوارٍ هذا الذي يجلس فيه الضحيةُ والجلّاد على طاولةٍ واحدة قبل أن تُنطق كلمةُ العدالة؟
فالتاريخ يعلّمنا أن المصالحات الحقيقية لا تبدأ قبل المحاسبة؛ والحوار بلا عدالةٍ ليس إصلاحًا، بل صفقةٌ على جثّة الحقيقة. ثم جاءت عبارته الأكثر خطورة: «الإسلاميون في السلطة». كلماتٌ صادرةٌ من رجلٍ كان يشغل منصبَ وزير الخارجية؛ لكنها أثارت تساؤلاتٍ أكثر مما أجابت. هل يقصد بها السلطةَ المدنية؟ أم الجيش؟ أم الدولة ككيان؟ أم أنه يردّد شعارات «قحت» و«صمود» وسائرَ عملاءِ الإمارات؟ أم أن هذه العبارة كانت تمهيدًا لما سيقوله بعد ذلك عن «الحوار السوداني–السوداني» الذي يجب أن يشمل الجميع.
على حدّ قوله «الإسلاميون» في السودان، بينما «قحت» و«صمود» وغيرهم يقيمون في الخارج؛ وعليه فإن «الحوار السوداني–السوداني» الذي يدعو إليه الوزير يشمل فعليًا من أشعلوا الحربَ أنفسهم. بهذا التمهيد، بدا وكأنه يُعدّ الأرضية لتبرير الجلوس مع حمدوك، وخالد سلك، وياسر عرمان، وغيرهم من رموز الخارج الذين يسيرون في فلك الإمارات وأجندتها الإرهابية.
هكذا يتحوّل خطاب «رفض الإقصاء» إلى غطاءٍ سياسيٍّ لتبييض الخيانة؛ بينما يُزال شرطُ المسؤولية والعدالة، فيُتاح لمن خانوا الوطنَ فرصةَ العودة إلى المشهد تحت شعار «الشمول والمصالحة». النتيجة واضحة: لا حوارَ حقيقيًّا ولا سلامَ دائمًا بلا عدالةٍ واضحةِ المعالم؛ عدالةٍ تسبق الجلوسَ إلى الطاولة ولا تُستبدل بعباراتٍ عامةٍ عن «الشمول».
أخطاءٌ بروتوكولية تكشف خللًا في معايير
اختيار الوزراء وغياب تأهيلهم المهني
في ٢٣ فبراير ٢٠٢٥، عقد «مؤتمر ميونخ الأمني» جلسةً بعنوان «الكابوس المستمر: الأزمة السياسية والإنسانية في السودان»، وكان يُفترض أن تكون منبرًا للدفاع عن السودان وكشف جرائم مليشيا الدعم السريع أمام العالم؛ لكنها تحوّلت إلى محاكمةٍ سياسيةٍ ممنهجةٍ ضد القوات المسلحة السودانية. تبنّت المنصةُ الروايةَ الغربيةَ المنحازة، متجاهلةً الطرفَ الحقيقيَّ المتسببَ في الكارثة الإنسانية: المليشيا المتمردة المدعومة من الخارج.
جلس وزيرُ الخارجية السوداني آنذاك، السفير علي يوسف، في قلب معركةٍ دبلوماسيةٍ شرسة؛ وكان يُنتظر منه أن يهاجم، لكنه اختار الصمت. صمتٌ لا يشبه الحكمة، بل العجز. فحين كانت المنصةُ تهاجم السودان بمصطلحاتٍ مسمومة مثل «الأطراف المتحاربة» و«حكومة بورتسودان»، وحين مُنح ممثلُ المليشيا حقَّ الحديث بحرّية بينما طُعن الجيشُ في شرعيته؛ لم يعترض الوزير، ولم ينسحب، ولم يسمِّ بالاسم الدولَ التي تموّل الحرب وتغذّي المليشيا بالسلاح والمرتزقة.
كان يعلم أن من تدير الجلسة هي «خلود خير» التي سبق أن اتهمت الجيش رسميًا أمام مجلس الأمن؛ ويعلم أن فولكر بيرتس المطرود من السودان سيكون بين المتحدثين، ومع ذلك جلس بينهم كأن شيئًا لم يكن. فإن كان يعلم فالكارثةُ في التقدير؛ وإن لم يكن يعلم فالكارثةُ في الإعداد. في لحظةٍ كان يُنتظر فيها أن يدافع عن سيادة السودان ويُفنّد الأكاذيب، خرج بخطابٍ باهتٍ لا يسمّي الممولين، ولا يفضح المتواطئين، ولا يحمي صورةَ الجيش في الخارج؛ فتحوّل المؤتمرُ إلى منبرٍ لتبييض التمرّد وإعادة تأهيله سياسيًا، وإلى فضيحةٍ دبلوماسية جعلت السودان يبدو كأنه المتهم لا الضحية.
لكنها لم تكن زلةً عابرة؛ بل نمطًا متكررًا من الأداء الرمادي نفسه: مجاملةٌ حين يجب الهجوم، وصمتٌ حين يُلزم الكلام؛ من ميونخ إلى الدوحة إلى المقابلات الإعلامية. الوزير يخسر معاركَ الخطاب كما لو كانت معاركَ اختيارية، ناسيًا أن الكلمة في زمن الحرب سلاحٌ لا يقلّ فتكًا عن البندقية. وعلى شاشة «الجزيرة» في الدوحة، قرّر الوزير أن يكرّر الخطأ نفسه. فعندما سُئل عمّا إذا كان قد استقال أم أُقيل منخ منصبه؛ أجاب بتفاصيلٍ داخليةٍ كان ينبغي أن تبقى في نطاق الدولة، لا في منابر الإعلام. ما قاله بعد ذلك لم يكن رأيًا شخصيًا؛ بل انكشافًا مؤلمًا لخللٍ مؤسسيٍّ داخل بنية الدولة.
فحين يخرج مسؤولٌ شغل موقعًا حساسًا في لحظةِ حربٍ وطنيةٍ ليتحدث أمام الإعلام عن خلافاته مع القيادة وأسبابِ إقالته أو استقالته؛ فإنه لا يمارس حريةَ تعبير، بل يهدم جدارَ السرية الذي تقوم عليه الدولة. فالمسؤول، حتى بعد مغادرته المنصب، يظلّ مُلزَمًا بواجب الصمت؛ لأن ما يحمله من معرفةٍ هو جزءٌ من أمن الوطن لا من سيرته الذاتية.
وفي العالم الخارجي، لا تُقرأ مثلُ هذه التصريحات كتحليلٍ أكاديمي؛ بل كدليلٍ على ارتباك الدولة وضعفِ انضباطها المؤسسي، فتتحوّل إلى مادةٍ في يد خصوم السودان لتصويره كدولةٍ منقسمةٍ تحتاج إلى وصايةٍ دولية.
إنّ خطورةَ ما قاله الوزير لا تكمن في الكلمات؛ بل فيما كشفه من غيابٍ تامٍّ لثقافة الأمن الإعلامي والسياسي لدى من يتولّون المناصب العليا؛ وكأن اختيار الوزراء يتمّ بالمجاملة لا بالكفاءة، دون أي إعدادٍ مهنيٍّ في أمن الدولة أو إدارة الخطاب خلال الأزمات. لو كانت هناك منظومةُ تأهيلٍ حقيقيةٌ ودوراتٌ إلزاميةٌ في الأمن السياسي والإعلامي؛ لما رأينا مسؤولًا سابقًا يفتح، ثغرةً في جدار السيادة يستخدمها الآخرون لإضعاف صورة السودان. المعركةُ اليوم ليست في الميدان وحده، بل في المايكروفون أيضًا؛ ومن يفرّط في ضبط الكلمة يفتح بابًا للاختراق لا يقلّ خطرًا عن هجومٍ عسكري. ولهذا، فإن ما فعله الوزير ليس مجرد سقطةٍ إعلامية؛ بل خللٌ في فهم معنى الدولة، ومعيار الولاء، وحدودِ ما يُقال وما لا يُقال سواء داخل المنصب أو خارجه. أو حين تكون البلاد في حالة حرب أو حالة سلم.
السيادة لا تُدار بالدبلوماسية الضبابية
ما كشفته مقابلةُ الوزير ليس مجردَ ارتباكٍ في التعبير؛ بل أزمةُ رؤيةٍ في مفهوم الدولة والسيادة؛ دبلوماسية الضباب: لا موقف يُعلن ولا رؤية تُرى.. فمن يتحدث عن الحرب كـ«نزاعٍ بين أطراف»، وعن المموِّل كـ«وسيطٍ نزيه»، وعن دمج المليشيا المرتزقة كـ«إصلاحٍ مؤسسي»؛ إنما يعيد إنتاجَ الخطاب الدولي الذي يسعى لتجريد السودان من حقّه في الدفاع عن نفسه. في لحظةٍ كان يُفترض أن يكون فيها صوتُ وزيرٍ سابقٍ في الخارجية هو صوتَ السيادة، خرج صوتٌ باهتٌ يتحدث بلغةٍ لا تُغضب أحدًا؛ لكنها أيضًا لا تُنصف السودان.
إنّ السودان اليوم لا يحتاج إلى دبلوماسيةٍ ضبابية ولغة رماديةٍ توازن بين الجاني والضحية؛ بل إلى خطابٍ صريحٍ يضع النقاط على الحروف: من معنا ومن علينا. فالسيادة لا تُدار بالمجاملات؛ بل بالعزيمة والإرادة. والحرب على السودان ليست نزاعًا داخليًا يمكن احتواؤه؛ بل عدوانٌ خارجيٌّ بأدواتٍ محلية.
ومن لا يُسمّي الأشياءَ بأسمائها يشارك، من حيث لا يدري، في تزوير التاريخ. فالحياد في زمن الدم ليس دبلوماسية؛ بل خيانةٌ مُغلّفةٌ بلغةِ التوازن. إنّ الدبلوماسيةَ في زمن الحرب ليست منصّةً للمجاملات؛ بل سلاحًا سياديًا لا يقلّ أهميةً عن البندقية في الميدان. ومن يعجز عن حمل الكلمة، لا يحقّ له أن يتحدث باسم وطنٍ ينزف دفاعًا عن نفسه. فمن يساوي بين الجيش والمليشيا، بين الدولة والمرتزقة، وبين الضحية والجلاد، ويتحدث بلغةٍ رماديةٍ في زمن الحرب؛ يفقد حقّه في الحديث باسم السودان.
نقلا عن براون لاند – عربي



