فيضانات سبتمبر: المشهد الأخير

لقد شهد نصف خريف 2025 الأول بدءاً من يونيو إلى منتصف أغسطس، إيقاعاً بطيئاً للأحداث، وكانت معدلات هطول الأمطار في حوض النيل الأزرق حينها أقل من المتوسّط، لكنها بدأت بالزيادة في حوض نهر عطبرة منذ بداية أغسطس. ولعل هذا البطء صرف أنظار المشاهدين عن ما قد تحمله الحلقات التالية من دراما الخريف الموسمية، رغم ما أكّدته قراءات الخبراء بزيادة معدّلات هطول الأمطار في النصف الثاني من أغسطس إلى نهايات سبتمبر.
إذن، ما شهدته ولايات السودان الواقعة على الشريط النيلي من فيضانات مفاجئة خلال النصف الثاني من شهر سبتمبر، جراء الازدياد المتسارع في منسوب مياه النيل الأزرق؛ كان سيناريو مقروءاً لدى خبراء البيئة والمناخ. لقد أصدر مركز التنبؤات المناخية وتطبيقاتها التابع للإيقاد (ICPAC) في العشرين من مايو الماضي – أي قبل ما يزيد عن أربعة أشهر – تقريراً يُفيد فيه بتأخّر موسم الأمطار في غرب إثيوبيا.
لقد تضافر عامِلا التغيُّر المناخي وسدّ النهضة، ليشكّلا مشهد فيضان سبتمبر من حيث التوقيت والشدة؛ إذ إن تشابُك المنظومة البيئية والعوامل المناخية في الكوكب يؤدّيان دَوراً بارزاً في تحديد مواقيت هطول الأمطار في السودان. ويُعدّ المحيط الهندي المُحرّك الرئيس لموسم الخريف في السودان، إذ يَجلب الرياح الرطبة إلى الهضبة الإثيوبية. إنّ هطول الأمطار على الهضبة الإثيوبية يعتمد بنحو رئيس على درجات حرارة المحيط الهندي، التي ينشأ عنها ما يُعرف بمنخفض الهندي الموسمي، وذلك عند ارتفاع درجة حرارة المحيط الهندي، ما يؤدّي إلى زيادة معدّلات تبخّر المياه المشبعة بالرطوبة والتي تتجه إلى الشمال الغربي، قبل أن تصل إلى المرتفعات الإثيوبية فتزداد برودتها فتتكّثف وتهطل الأمطار.
إلا أن هذا العام قد شهد تغيّراً في أنماط المناخ فتأخَّر ارتفاع درجة حرارة المحيط الهندي، الذي يكون في العادة في شهر يونيو، وتأخَّر تبعاً لذلك موسم الأمطار إلى ما بعد شهرَي يونيو ويوليو، في شمالي إثيوبيا في منطقة حوض نهر تيكيزي (نهر عطبرة)، ما أدّى إلى تدفق غزير للمياه في مجراه أخيراً.
بعد ذلك شهدت منطقة حوض النيل الأزرق (الرافد الرئيس للمياه الواردة إلى سد النهضة ونهر النيل الأزرق)، هطولاً غزيراً للأمطار في شهر أغسطس وحتى منتصف سبتمبر، ومن ثم بدأ الهطول في التباين والتناقص، لذا يمكن أن يُوصَف جميع ما سبق بأنه كان جراء تذبذب مناخي طبيعي في أنماط هطول الأمطار.
لكنّ سدّ النهضة أضاف عنصراً جديداً إلى ديناميكية جريان النهر، إذ لم تَعد الطبيعة وحدها تتحكّم في إيراد المياه إلى السودانيين.
إنّ عملية تشغيل سد النهضة الإثيوبي تستلزم ملء بحيرته كلياً بالمياه، وتبلغ سعتها 74 مليار متر مكعب من المياه. وبما أن الإيراد السنوي للنيل الأزرق يبلغ في المتوسط حوالي 48.3 مليار متر مكعب سنوياً يتدفق 80% منه أي حوالي 41 مليار متر مكعب خلال موسم الأمطار (يونيو – سبتمبر)؛ فهذا يعني أن موسم الأمطار هو الفترة الوحيدة التي يمكن لإثيوبيا فيها ضمان ملء خزان السد. ومن الجدير بالذكر هنا، أن طبيعة مياه سد النهضة الإثيوبي غير استهلاكية، أي أنها لا تُستخدم لأغراض الريّ، وإنما بغرض توليد الكهرباء عن طريق تشغيل التوربينات، ما يعني أن المياه الداخلة إلى السد ستعود لتغادره مرة أخرى.
بَيد أنّ فيضان سبتمبر الحالي، لا يَنفصل عن ما حدث خلال موسم الأمطار للعام الماضي (خريف 2024)، الذي وصلت فيه إثيوبيا إلى ملءٍ شبه تامّ لخزان بحيرة سد النهضة، مُستفيدةً من مُعدّل هطول الأمطار المرتفع في الفترة من (2020-2024) وهي التي تَصادف فيها ملء خزان سد النهضة على خمس مراحل؛ وعليه فقد جرى ملء بحيرة السد قبل التشغيل الفعلي له. وبدلاً من أن تُصرِّف إثيوبيا جزءاً مقدراً من المياه المُحتَجزة داخل بحيرة سد النهضة منذ العام الماضي، تحسّباً للمياه الجديدة القادمة في موسم الأمطار للعام 2025، احتجزت كميات كبيرة من المياه قبل موسم الأمطار. ويبدو أن الدافع وراء ذلك كان حالة عدم اليقين من أن موسم الأمطار الحالي سيكون وفيراً، لا سيما أن شهري يونيو ويوليو قد شهدَا معدلات أمطار دون المتوسط، الأمر الذي من شأنه أن يُقلق إثيوبيا في أن تفقد حصّتها السنوية من المياه اللازمة لإتمام ملء السد، إذا ما مرّرت المياه إلى السودان ومصر، اللذين لن يتنازلا عن حصتهما السنوية (تبلغ حصة السودان 18.5 مليار متر مكعب، بينما تبلغ حصة مصر 55.5 مليار متر مكعب، وفقاً لاتفاقية تقاسُم مياه النيل الموقّعة بينهما في 1959).
وبذا فقد امتلأت بحيرة سد النهضة كلياً بالمياه قبل انتهاء موسم الأمطار الجاري، ما يعني أن أي قطرة ماء إضافية على حوض النيل الأزرق ستُمرَّر مباشرةً إلى السودان عبر بوابات مفيض سد النهضة الإثيوبي. وعليه، في منتصف سبتمبر، وبعد أيام قليلة من مهرجان افتتاح سد النهضة (9 سبتمبر 2025)، بدأ سكان ولاية النيل الأزرق جنوب شرقي السودان يلحظون ارتفاعاً مُتزايداً لمياه النهر، وسرعان ما فاضت على ضفاف مدن الدمازين والروصيرص وغيرها من قرى النيل الأزرق، فتلاحقت جراء ذلك نداءات استغاثة وصور للفيضان ملأت صفحات وسائل التواصل الاجتماعي. وبعد ذلك بأسبوع كامل (22 سبتمبر)، نشرت وزارة الري والموارد المائية على صفحتها في الفيسبوك أول تنويه لها بخصوص ارتفاع مناسيب نهر النيل الأزرق.
تَواصل ارتفاع منسوب النيل الأزرق حتى 29 سبتمبر الماضي؛ حين أعلنت وزارة الري عن بدء رصد انخفاض تدريجي في وارد مياه نهر النيل الأزرق عند خزان الروصيرص. لقد تجاوزت مياه الأمطار مناسيب الفيضان في غالبية الأحباس (مراكز القياس) على مجرى النيل الأزرق.
غير أن المفارقة تجلّت في مناطق جنوب الخرطوم وأم درمان، التي تقع على ضفتي النيل الأبيض، وقد شهدت ارتفاعاً كبيراً في منسوب النهر، رغم أن تصريف مياه سد النهضة يأتي على النيل الأزرق. تُعزَى هذه المسألة إلى عاملَين، كلامها يرتبط بنحوٍ وثيق بما يحدث في إثيوبيا: تسببت الأمطار الغزيرة على الهضبة الإثيوبية في زيادة منسوب نهر السوباط، وهو أحد الروافد المهمّة لنهر النيل الأبيض، إذ ينبع من المرتفعات الإثيوبية ويلتقي مع النيل الأبيض في بحر الجبل جنوب مدينة ملكال في جنوب السودان، ليُشكّلا بعد ذلك ما يُعرف بنهر النيل الأبيض، الذي يتجه شمالاً إلى الحدود السودانية؛ إلا أن تزامُن انتعاش نهر النيل الأبيض مع التدفق الهائل لمياه النيل الأزرق، يجعل لقاءهما في مقرن الخرطوم غير حميمي، إذ إنّ الاندفاع الهائل لتيار النيل الأزرق عند المقرن يخلق ديناميكية معقدة لالتقاء النهرين ينشأ عنها ما يُعرف بالحائط المائي الذي يشكّله النيل الأزرق على حساب النيل الأبيض، والذي يقود بدَوره إلى احتجاز النيل الأبيض بين منطقة المقرن شمالاً وجبل الأولياء جنوباً. ولأن الطبيعة التضاريسية لمجرى النيل الأبيض تجعله غير عميق وأكثر اتساعاً، يتراجع النيل الأبيض ويصبح بحيرة شبه راكدة تفيض مياهها على جنبات النهر، فتُغرق الأحياء على ضفتيه في جنوبي الخرطوم وأم درمان.
إنّ الطبيعة التضاريسية لمجاري الأنهر تؤدّي دَوراً بارزاً في التفاعل مع تدفق المياه واحتمالية حدوث الفيضان؛ فبينما تُظهر صور الأقمار الصناعية ازدياد مساحة مجرى نهر النيل الأبيض، يَظهر في المقابل مجرى النيل الأزرق ضيقاً وغير متأثّر بالتدفق القوي للمياه. يحدث ذلك رغم أنه يحمل أربعة أضعاف كميات المياه في النيل الأبيض. يَرجع ذلك إلى عمق مجرى النيل الأزرق وانحداره، إذ يتدفّق في ما يشبه الخوانق التي تؤدي إلى تسريع الجريان وانسيابيّته بما يعيق توسّعه على ضفتي اليابسة خلافاً لنظيره الأبيض. لقد حمل النيل الأزرق خلال الأيام الفائتة كميات هائلة من المياه تقدّر بـ 750 مليون متر مكعب في اليوم، غير أن تأثيراته كانت متباينة على المدن الواقعة على ضفافه. وبينما غرقت أجزاء من مدن النيل الأزرق و(شرق النيل بولاية الخرطوم)، إضافة إلى مناطق شمال بحري (منطقة ود رملي)، لم تشهد مدن ولاية الجزيرة فيضاناً يُذكر، رغم ارتفاع المياه إلى منسوب الفيضان، ويُعزَى ذلك أيضاً إلى التباين في التضاريس والطبيعة الجيولوجية لهذه المناطق، وهذا ما يفسّر غرق بعض المدن ونجاة بعضها.
إنّ العوامل المحدّدة لاحتمالية حدوث الفيضان فضلاً عن مدى شدّته وتوقيته، تُعَدُّ أكبر بكثير من مجرد أن يجري اختزالها في مسألة سد النهضة، فضلاً عن تسييس قضيته بما يضرّ بالمعرفة العلمية. لقد أبانت المعلومات التي وفرتها وزارة الري والموارد المائية، أن جميع مناسيب نهر النيل في هذا العام، لم تتجاوز مناسيب فيضان العام 2020، أي قبل بدء الملء الفعلي لسد النهضة، وهو العام الذي سجّل أرقاماً قياسية لارتفاع منسوب النيل في مناطق سنار والخرطوم ونهر النيل، كما شهد العام 2022 كذلك فيضانات هائلة سجّلت خسائر كبيرة. وعليه، فإن موسم الفيضانات الحالي لم يكن الأسوأ قياساً بالسنوات الأخيرة. مع الأخذ بعين الاعتبار أن بعض الظواهر المناخية، قد تتسبَّب في فيضانات بعيداً عن ضفاف نهر النيل، مثلما حدث العام الماضي حينما شهدت ولايات شرق وشمال السودان أمطاراً غزيرةً بسبب ظاهرة (النينو)؛ حينها كان سد النهضة يؤدّي دَوراً مُهماً من حيث تخزين كميات المياه في خزان بحيرته، ما أدى لأن تنعم المدن على مجرى النيل الأزرق بمناسيب معتدلة من المياه.
إن فيضان سبتمبر سيمثل مادة مثالية للمُزايدات السياسية، وقد بدأت بالفعل آلة الإعلام المصرية بالتبرّع للمنافحة عن السودان وإبداء قلقها على معاش السودانيين، مُستضيفةً، بانتقاءٍ، الخبراء السودانيين المناهضين لمشروع السد، في مقابل عدم إتاحة الفرصة لمن يحمل آراء مُغايرة، قبل أن تختتم طرحها الإعلامي بديباجة مكرّرة تُفيد بأن هذا ما حذّرت منه مصر وأنّ إثيوبيا تتعمّد الضرر. تفعل مصر ذلك، رغم عدم تضرّرها من حدوث أي فيضان، عطفاً على قدرة السد العالي في مصر على تحمّل أي كميات مياه قادمة من السودان؛ إلا أن الحقيقة الماثلة هي أن مشروع سد النهضة سيحرم مصر من امتيازات عديدة كانت تتمتع بها خلال العقود الماضية.
رغم ما ستُحدثه فيضانات سبتمبر من تغبيش على صورة سد النهضة، فإنّ المشروع يظلّ في جوهره فرصة لا تُقدَّر بثمن للسودان إذا ما استطاع أن يضعه في إطار تعاون إقليمي قائم على الشفافية والإدارة المشتركة. لقد حقّقت أديس أبابا ما أرادته؛ بأن يكون السد أمراً واقعاً، بينما تقف القاهرة خلف حصنها المنيع المتمثل في السد العالي بسعته الضخمة البالغة (162) مليار متر مكعب، ويظلّ السودان الطرف الأشدّ هشاشة أمام أي تقلّب في تصريف المياه أو فيضان غير متوقّع ما لم يُجْرِ تفعيلاً لآليات التنسيق وتبادل المعلومات. لقد أثبتت فيضانات سبتمبر أنّ السودان هو الخاسر الأكبر من توقف جولات التفاوض، إذ فقدت الخرطوم أبسط أدوات الحماية، وهي المعلومات المُسبقة عن حجم التخزين ومعدلات التصريف، والتي لو توافرت في وقت مناسب، لكان بإمكانها أن تُترجِم استجابتها إلى فعل استباقي عبر منظومة إنذار مبكر تُمكّنها من تفادي الكوارث التي لحقت بالمواطنين على ضفتيه.
إلا أنّ هناك بصيصاً مُعلَّقاً بحقيقة أنّ اكتمال تشغيل توربينات السد الإثيوبي بنحو تامّ، قد يحمل مخرجاً لمسألة الفيضانات، إذ إنّ عملية توليد الكهرباء تطلق نحو (133) مليون متر مكعب من المياه بانتظام كل يوم وذلك على مدار العام، وهو ما يعني أن بحيرة السد ستفقد بالضرورة كميات كبيرة من مخزونها قبيل موسم الأمطار، الأمر الذي سيخفّف من احتمالات الصدمات المفاجئة.
لذا، فإن التساؤل الجوهري الذي سيظل مطروحاً أمام صنّاع القرار في السودان، سيَدور حول مدى قدرتهم على كسر تعنّت أطراف التفاوض في الوصول إلى اتفاق. إضافة إلى معرفة حقيقة ما يشاع من أن صفقات وتنازلات قُدمت في مساومات مقابل الحصول على الدعم العسكري والسياسي في الحرب التي تدور رحاها في البلاد لما يزيد عن عامين. وأياً كان الجواب، فإنّ ذلك لن يغير حقيقة أن الخلاص لن يكون إلا في الوصول إلى إرادة الأطراف في تحويل مشروع السد من مصدر نزاع إلى أداة للتكامل الإقليمي، وهو أمر ليس بعيد المنال متى ما استقام الشأن السياسي.
نقلا عن اتر



