رأي

إدمون منير.. سهرتنا الليلة !!

إبراهيم احمد الحسن
(1)
نحث الخطى ونحن نعبر سريعاً أمام دار الشباب في السوق الكبير . من خلال بابها المشرع نختلس النظر نحو شاشة التلفاز الكبيرة وسط الدار وقد جلس اليها اعداد مهولة من الفراجة . نقاوم إغراء الشاشة الكبيرة الملونة ( ومدينة الأبيض حديثة عهد بالتلفاز بعد وصول شبكة المايكروويف اليها منتصف سبعينات القرن الماضي ) نقاوم ثم لا ننفك .
(2)
الشاشة الكبيرة الملونة تغرينا بالانضمام الي جوغة المشاهدين ودفء البيت ينادينا بالإسراع الي شاشتنا الحنينة ذات اللونين الأبيض والأسود ، مقاس 14 بوصة ماركة باناسونيك . مقدمة السهرة التي تعرضها شاشة دار الشباب من تلفزيون السودان تجعلنا نقف متسمرين أمامها حتى لا يفوتنا عرض المقدمة من التلفزيون الملون وشاشته الكبيرة .
(3)
نقف لنشاهد الفأر وهو يسرق حروف مجهود من أعدها ،يجري ليخبئها في جُحرٍ غير بعيد ، وتنتقل بنا رسوم إدمون المتحركة بين الفأر المنتشئ بنصر استحواذه علي كل الحروف وبين القط الذي يعد العدة للانقضاض وإستعادة حروف سهرتنا الليلة المسروقة ، لا غرابة ان يسرق الفأر جيري ، ولا عجب أن جيري كان اسمه جينكس وتعني النحس قبل ان يتحول الي جيري . وأي نحس أفظع من السرقة ؟
في منظر عجيب يجسد علاقة العداء الأزلية بين القط والفأر نقف مشدوهين ننتظر نتائج صراعهما المعلوم النتائج والمحتوم والذي ليس فيه حلقة أخيرة بل انه تجاوز الاجيال الأُول منهما الي مسلسلات أُخر بذات النسق والفكرة اسمها مسلسلات أبناء توم آند جيري في مستهل تسعينات القرن الماضي ، نعلم جداً نتائج صراعهما ولكننا نقف مندهشين نشاهد !!
(4)
أنجح ثنائي مختص بالرسوم المتحركة هما (ويليام هانا ) و(جوزيف باربارا ) ، وقد إبتكرا شخصيات توم وجيري في العام 1940 ، حين تم عرض أول حلقة من المسلسل الذي لاقى نجاحاً منقطع النظير وشهرة عالمية واسعة ، ويعزى سبب ذلك النجاح والشهرة إلي إعتماد العرض علي الإتصال البصري بنسبة تصل إلي 95% وبنسبة ضئيلة لا تتجاوز ال 5% تعتمد علي الحوار واللغة الناطقة مما جعل هذا المسلسل يتبع لغة عالمية لا تستعصى علي الفهم في اي جزء من الكرة الأرضية وذلك لأنه إعتمد أساساً علي حركات وإيماءات توم وجيري التي يسهل فهمها علي نطاق العالم . ولكن هل كان يدرك (ويليام هانا ) و (جوزيف باربارا ) اللذان ابتكرا شخصيات توم آند جيري ان هنالك مبدعاً مرهف الحس واسع الاطلاع وحاذق في بقعة بعيدة من العالم اسمها السودان ؟ وإن هذا المبدع اسمه (إدمون منير ) استطاع أن يوظف الفكرة ويضعها علي منصة الإبداع مقدمة لبرنامج السهرة في تلفزيون السودان .
(5)
نعم المبدع الحاذق المرهف الحس ، السوداني الأصيل ، الإنسان النبيل ، واسع الخيال ، الجميل خلقة وأخلاق وجبلة ومنشأ ( إدمون منير ) ، الذي إستوحى من الابتكار إبداع ، ومن الإبداع إدهاش ، وإستطاع ايجاد مفهوم جديد للرسوم المتحركة وجعل من توم آند جيري قصة إبداع علي شاشة تجسد مقدمة مبتكرة لدعوة المشاهدين ل حضور السهرة . وكنا نحن بعض هؤلاء المشاهدين نتسمر أمام شاشة تلفزيون السودان في جهاز تلفاز ضخم في دار الشباب بالأبيض لنشاهد إبداع إدمون منير قبل أن نسرع الخُطى للحاق بالسهرة ذاتها من تلفزيون البيت أبيض وأسود .
(6)
هندس إدمون منير وجداننا وبلغة إيماءات وحركات القط والفأر استطاع ان تصل منه رسالة مفادها أن اللغة العالمية التي لا تستعصى علي فهم كائن من كان في هذا الوجود يمكن أن تذيب الحواجز وتُسهل التواصل .
تواصل سلسل ومنساب بلا عُقد أو توهم . لأنها تنسل من إنسانية البشر وتنداح بينهم بلا حدود . ببساطة لأن إدمون منير كان مبدع وسوداني وفوق ذلك كان بطبعه إنسان شفيف ومرهف . ولا أدري والله لماذا تذكرت وأنا اكتب عن إنسانية إدمون وتفانيه ما خطه الحلنقي وغناها إبراهيم حسين كأحسن ما يكون النظم والغناء ، ليه يا شمعة سهرانة( تحرقي في شباب عمرك / لا بيسأل عليك حبيب / لا هامبهو إيه أمرك / مساكين ما بيعرفوا الدنيا / شايلة صباحها من دُرك / وما عرفوك إنسانة / وليه يا شمعة سهرانة ؟ ) ما كنا نعرف ان صباح الدنيا استمدّ إشراقه من نور إدمون منير وغيره من المبدعين ! ربما ..
(7)
نعم وضع إدمون منير إرث الرسومات المتحركة تحت إمرة شاشة التلفزة ، تفنن وأبدع . فعل كل ذلك بتواضع العلماء وسمت المبدعين وزهد السوداني طبعاً وجبلة وجمال الإنسانية ،فعل كل ذلك بإمكانات مادية متواضعة وإمكانات معنوية مهولة ، إبداع بلا حدود واطلاع واسع بوسائل محدودة (وقتئذ) جعلتنا نتسمر أمام شاشة تلفزيون السودان نشاهد الفأر يسرق والقط يسترد المسروقات ، ويا لطرافة الفكرة التي جسدها إدمون في رسم متحرك ، فأر يسرق أحرف (سهرتنا الليلة ) وقط يعيد المسروقات حرف تلو الآخر ، حتى آخر حرف . ونظل ننتظر أمام الشاشة ونحن ننظر ونتساءل اين نقاط الحروف ؟ فيأتي الجواب سريعاً من إدمون حين يبدع في ختام استرداد كل مسروقات الحروف . ويجيب علي السؤال الذي يقف غصة في حلوقنا أين النقاط ؟
(8)
من منا لا يتذكر ابداع إدمون منير في سهرتنا الليلة ،من منا لا يتذكر الأحرف المسروقة وعملية استردادها ،ثم من منا لا يتذكر إدمون منير وهو يضع كل النقاط على حروف سهرتنا الليلة جملة واحدة وبمجهود من القط حين يدخل ذيله في جحر الفأر ويأتى بكل النقاط ويشتتها جملة واحدة لتستقر فوق كل الحروف . سبعة نقاط حسوم النقطة تلو النقطة . فاستقرت النقطتين علي التاء ونقطة واحدة علي النون ونقطتين علي الياء ونقطتين علي التاء المربوطة .
(9)
لم يقف إبداع إدمون عند الرسومات المتحركة ، بلغتها العالمية ، بحركاتها وإيماءاتها البليغة المعبرة بل إنداح إبداعه ليشمل برامج عديدة منها برنامج ( خد وهات )في تلفزيون السودان ، بأسئلته الخفيفة الرشيقة والصعبة والتي شكلت سهلاً ممتنع عند كل الضيوف ، ومن منا لا يتذكر الحلقة الأشهر مع الفنان سيد خليفة ؟ ، عندما كان السؤال ماذا تقول إذا حللت في بلدٍ غريب لا يفهمك ناسه ، رد سيد خليفة بروحه السمحة وطبعه الجميل وظرفه أقول لهم ( أودعكم أفارقكم لا لا لا ما بقدر !! لكن آه .. آه ).وتتمدد لكن آه..آه حتى رمان الناس هذا .
(10)
لكن آه .. آه ، ودع سيد خليفة ، ثم ها هو من طرح السؤال يودع . نسأل الله له الرحمة والمغفرة .. وأنا هنا لست بصدد التعريف بإدمون منير فالمعروف لا يُعرف فهو فنان تشكيلي ورسام ونجم تلفزيوني، وإدمون منير تعرفه دنا الإبداع في السودان في خيلها وبيدها في قرطاسها وقلمها في لوحاتها والريش والألوان في النقوش والزخارف ، من لدن (جنة الأطفال ) الي ( فرسان في الميدان ) البرامج الأشهر في تلفزيون السودان حتى لازمة ( لحظات ونواصل ) كانت من ابداع رسمه وخط يده . إدمون منير تعرفه الفنون والرسوم المتحركة والخدع السينمائية التي درسها وتخصص فيها . إدمون منير تعرفه الجوائز والأنواط والأوسمة والميداليات الذهبية ، ولا غرو فإبداع إدمون يتجاوز الأنا وحظوظ النفس البشرية الي براح الإنسانية.
لكن آه .. آه ودع إدموند ورحل لكنه وداع مشهود ويؤرخ له عند كل سوداني بأحرفٍ من نور ، ويُثبت له انه وبكل جرأة جعل القط يضع كل النقاط علي مسروقات الحروف بعد ان أعادها حرف ..حرف .
ها هو قد رحل ادمون الذي وضع النقاط فوق حروف سهرتنا الليلة . فمن اين لنا بعده من يضع النُقَط فوق كل الحروف . هذا او ستظل كل حروفنا الجميلة بلا نقاط كما ظلت اسئلتنا الصعبة بلا إجابات .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى