تقارير

«لن نهرب أبداً»: من داخل حصار الفاشر

على مدى 500 يوم، ظل 260 ألف شخص محاصرين من قِبل مليشيا قوات الدعم السريع. وبينما يتعثر التقدم السياسي، يُقتل كل من يحاول الهرب، فيما يواجه من بقوا داخل المدينة شبح المجاعة. ويعتقد الخبراء أن المدينة ستسقط قريباً وأن النهاية قد بدأت. 

لم تكن تتخيل مريم عبدالغفار حياتها كجدة على هذا النحوٍ. لكن صباح 11 أغسطس وجدت نفسها منحنية في خندق، تنتظر الموجة التالية من الهجوم. 

جاء الهجوم بعد الفجر. وجهت بندقيتها الكلاشنيكوف العتيقة نحو الشاحنات التي اندفعت نحوها. كانت الصواريخ تصرخ فوق الرؤوس. طائرات مسيّرة انتحارية بحجم طائرات خفيفة تحلق في السماء. القذائف تنهمر. 

صف من المنازل المبنية بالجالوص اختفى فجأة. الانفجارات اقتربت أكثر فأكثر. قريبة جداً. أطاحت موجة انفجار بمريم أرضاً. سال الدم على عنقها. 

حُملت الأم الخمسينية من خط المواجهة: فقد نفذ وقود سيارات الإسعاف في الفاشر منذ أشهر. ضغط أحدهم قطعة قماش على جرحها. الضمادات أيضاً كانت قد نفذت. ولم يعد هناك دواء. 

تقول فاطمة علي: «لم نكن نستطيع أن نخسر مريم. كانت مقاتلتنا الأكبر سناً». 

وعلى الجانب الآخر من المدينة، كانت سارة بخيت تنحني بجوار مدفعية قرب المطار المهجور. أمرت بفتح نيران تغطية لمنع قوات الدعم السريع من اجتياح موقع مريم. 

بابتسامتها الدائمة التي تكشف عن فجوة بين أسنانها، كانت الأم البالغة من العمر 43 عاماً أسطورة في الفاشر، ناجية من أكثر من 150 معركة. اتفق الجميع أنه إن سقطت، ستسقط المدينة معها. 

تقول: «لكن القتال أصبح خطيراً للغاية. قناصوهم يستهدفونني باستمرار». 

أفادت تقارير بأن قوات الدعم السريع تتقدم جنوباً داخل المدينة، في مسعاها للسيطرة على آخر معقل للجيش السوداني في دارفور. تم اختطاف نساء، وأخريات أُعدمن على الفور. تقول سارة بخيت: «نقاتل لنعيش. ليس لدينا خيار سوى حماية عائلاتنا». 

ست ساعات ظل القتال يتأرجح بين الطرفين. ثم فجأة تراجعت قوات الدعم السريع إلى خنادقها التي تطوق المدينة. 

هتفت سارة فرحاً، لكن الليلة لم يكن هناك وليمة للاحتفال. فقد نفذت إمدادات الطعام من المدينة.لقد كانت الفاشر تحت الحصار لأكثر من 500 يوم. في مايو 2024، حذرت الأمم المتحدة من أنها على «حافة المجاعة». ومنذ ذلك الحين لم تصل أي مساعدات. 

المعركة التي أصيبت فيها مريم في أغسطس كانت المحاولة رقم 228 لقوات الدعم السريع للاستيلاء على المدينة. 

ويظل الصراع حول الفاشر المواجهة الأبرز في الحرب الكارثية بين الجيش السوداني ومليشيات قوات الدعم السريع. ففوز الأخيرة يعني السيطرة الكاملة على غرب السودان، وشطر البلاد إلى نصفين. 

ومع ذلك، ورغم كل الظروف، لم تسقط الفاشر. المدافعون عنها – خليط من متطوعين مثل مريم، وثوار مثل سارة بخيت، وكتيبة مشاة منهكة للجيش  – محشورون في جزء متقلص من المدينة المدمرة مع 260 ألف مدني محاصر، نصفهم أطفال. 

يقول شيلدون يت، ممثل اليونيسف: «إنه حصار من العصور الوسطى؛ شيء كنت تتوقعه في القرون الوسطى». 

ومع ذلك لم تدخل أي مساعدات منذ ما يقرب من 18 شهراً. والسبب، وفقاً لوثائق مسربة ومصادر استخبارية ومسؤولين كبار في الأمم المتحدة، يثير أسئلة عميقة حول أولويات المجتمع الدولي. 

تشير الأدلة إلى أن حليفاً رئيسياً للولايات المتحدة والمملكة المتحدة تدخل لعرقلة دخول المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة إلى الفاشر. 

الإمارات العربية المتحدة تدخلت في لحظة حاسمة؛ ويُعتقد أن مئات الأطفال ماتوا منذ ذلك الحين بسبب الجوع في المدينة. 

مسؤولو وزارة الخارجية الأميركية ناشدوا مباشرة الدولة النفطية أن تدعم وقف القتال والسماح بدخول المساعدات إلى الفاشر. 

كبار مسؤولي الأمم المتحدة الإنسانيين أيضاً تفاوضوا مباشرة – بلا جدوى. 

الإمارات، التي تُتهم مراراً بتزويد قوات الدعم السريع بالسلاح، تنفي دعمها للمجموعة. 

وتقول مصادر مطلعة تتابع الأزمة إن أحد أطول الحصارات الحضرية في الحروب الحديثة لم يكن ممكناً لولا هذا الدعم. 

«الإمارات هي شريان الحياة للحصار. من دون دعمها، كانت قوات الدعم السريع ستنهيه». 

وتشير التقديرات الاستخبارية إلى أن قوات الدعم السريع تعتزم تنفيذ تطهير عرقي إذا سقطت الفاشر. وتوقعت النماذج آلاف القتلى في مجازر جماعية. 

وأكدت التقديرات أن قوات الدعم السريع أرادت اجتياح المدينة خلال موسم الأمطار، الذي بدأ في أوائل يونيو وجلب معه الغيوم، إذ كانت تدرك أن ذلك سيجعل من الصعب على الأقمار الصناعية توثيق جرائم الحرب. 

ومع تكاثف الغيوم في سماء الفاشر في يونيو، استدعيت مريم إلى الجبهة الشمالية للمدينة. كانت تعزيزات الدعم السريع تتجمع.

يونيو 2025 

2 يونيو – أرواح بلا حماية أمام شبح الجوع والموت

تحركت قافلة عبر صحراء شمال دارفور، على بُعد ثلاث ساعات من الفاشر. خمسة عشر شاحنة، كل سائق فيها متوتر مثل الآخر. لم تصل أي شاحنة إلى المدينة منذ أبريل 2024. 

على بُعد أربعة آلاف كيلومتر إلى الشمال، كان ديفيد لامي – وزير الخارجية البريطاني آنذاك – يدير مؤتمراً صحفياً في فندق فاخر بمدينة مراكش المغربية. في وقت سابق، كان قد كشف عن نهج بريطانيا الجديد تجاه أفريقيا، لكن بلداً واحداً استحوذ على اهتمامه. 

وبينما كان يوبّخ العالم بسبب “لامبالاته” تجاه حرب السودان، أكد أن السودان يمثل “أسوأ كارثة إنسانية في العالم“. 

وكانت الفاشر هي مركز الكارثة، والوضع على وشك أن يزداد سوءاً. فبعد خطاب لامي بوقت قصير، تعرّضت القافلة القادمة من دارفور لغارة جوية دمّرتها. وفي الفاشر، جلب الخبر اليأس. 

يقول عبدالسلام كتير، 50 عاماً، الذي كان يعيش قرب الجامعة مع زوجته وابنه: «لقد أكد لنا ذلك أننا وحدنا. تُرك الضعفاء مكشوفين أمام المجاعة والموت». 

15 يونيو – الجدة مريم عبدالغفار تلتحق بجبهة القتال 

رأت مريم ما يفعله العنف: الإبادة الجماعية قبل عقدين، الحرب التي أودت بحياة 300 ألف من أبناء دارفور، والناجون منهم يتكدسون اليوم في الفاشر طلباً للحماية. 

عندما اندلعت الحرب، تطوعت السبعينية لصنع الكسرة للقوات المشتركة. لكن الإمدادات الغذائية سرعان ما تقلصت حتى كادت تختفي. وازدادت الحاجة إلى مقاتلين. فقالت لصديقها إبراهيم أحمد: «لم يكن لدي خيار. عليّ أن أذهب إلى الجبهة».

قوات الدعم السريع – أحدث نسخة من الميليشيات ارتكبت الإبادة – بدأت حملة تجنيد واسعة. آلاف من مقاتليها كانوا يطوّقون المدينة. صدّهم كان يزداد صعوبة يوماً بعد يوم. فقد كان المهاجمون يمتلكون أسلحة متطورة، تقول المصادر إنها تُنقل جواً إلى نيالا، على بُعد 120 ميلاً (193 كلم) جنوباً. 

أما أقرب القوات الصديقة المتقدمة فكانت على بُعد 350 ميلاً شرقاً. وكان بين صفوفها ابن سارة بخيت الأصغر. تقول ضاحكة: «سيأتي ليحررنا». وعلى عكس مريم، كانت سارة بخيت قد قاتلت من قبل. فقد واجهت الميليشيات وهي مراهقة. ولاحقاً، قتلوا زوجها. بل إن قوات الدعم السريع نفسها كانت مسؤولة عن ابتسامتها المميزة: حين غرس مقاتل بندقيته في فمها. 

الهجوم رقم 214 على الفاشر تركز على معسكر أبو شوك للنازحين عند الجانب الشمالي للمدينة. وكان الأكبر منذ شهور. يقول آدم محمد، أحد السكان: «كان لديهم أسلحة جديدة. اهتزت المدينة كلها». الهاوتزر دمّرت المنازل. طائرات مسيّرة انتحارية اقتربت من الشرق. وتقدمت القوات المهاجمة. 

لم تستطع مريم أن تدع أبو شوك يسقط، فهو الملاذ الآمن للذين فروا من الإبادة. كما أنه يضم آخر سوق عاملة في الفاشر، سوق نيفاشا، حيث لم يتبق سوى خمسة جوالات من الدخن.عند الخامسة مساءً، انسحبت قوات الدعم السريع. وقد تمكنت وحدة المستنفرين بقيادة مريم من الدفاع عن السوق – ليوم آخر على الأقل. 

سمع عبد السلام أصوات المدافع تسكت. وهو مسؤول سابق في بعثة حفظ السلام الأممية المنحلة بدارفور، ولم يترك المدينة التي أحبها. 

لكن ليلة طويلة أخرى كانت بانتظارهم. فقد اختفت المواد الأساسية مثل الذرة الرفيعة تقريباً. معظم التكايا أُغلقت: لم يعد هناك شيء يُطهى. كان الأطفال يأكلون الجراد. وحتى الأفراد ذوو العلاقات الجيدة مثل عبد السلام كانوا يجدون اللحم بين حين وآخر، لكن الأمر يزداد صعوبة. كان الحصار يشتد أكثر فأكثر. 

16 يونيو – بريطانيا ترفض تسليم ملف السودان  

أشارت معلومات استخباراتية إلى أن الهجوم على الفاشر قبل 24 ساعة كان يهدف إلى اجتياح المدينة بالكامل. وكانت هناك تحذيرات صريحة من حدوث تطهير عرقي. 

عُقدت جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي حول السودان. كانت الفاشر تندفع بسرعة نحو كارثة. الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية كانوا يموتون يومياً. 

شعر بعض الدبلوماسيين أن الحصار لا يُؤخذ على محمل الجد. يقول أحدهم: «أين كان التحرك؟ أين كانت العجلة؟». 

قبل عام، أصدر مجلس الأمن قراراً يحث على إنهاء الحصار، لكن منذ ذلك الحين اشتد الخناق حول الفاشر. 

وكانت المخاوف تتزايد بشأن موقف بريطانيا. فهي بصفتها «حاملة قلم» الملف السوداني في المجلس، كانت مسؤولة عن تحفيز الاستجابة الدولية. لكن روسيا تعهّدت باستخدام الفيتو ضد أي قرار بريطاني، ما أفقد لندن نفوذها. عندها جرى ابتكار حل: فدول تمثل أفريقيا – سيراليون والصومال والجزائر – عرضت تولي مسؤولية الملف السوداني. 

غير أن بريطانيا رفضت التخلي عن السيطرة. يقول أحد محققي الأمم المتحدة: «كانت بريطانيا توفر غطاءً سياسياً للإمارات». ويضيف أن إسكات مجلس الأمن عن الفاشر حال دون التدقيق في دور الإمارات. 

وقالت وزيرة التنمية جيني تشابمان إن بريطانيا استخدمت موقعها في الأمم المتحدة وغيرها لـ«ممارسة الضغط الدبلوماسي». 

27 يونيو – الاستثمارات الإماراتية تنتصر مقابل الأطفال الجائعين

ُقدت جلسة أخرى لمجلس الأمن بشأن السودان. كان الضغط الداخلي يتزايد لتأمين هدنة لصالح الفاشر. داخل المدينة، بدأت العائلات بمضغ أوراق الشجر للبقاء على قيد الحياة. 

قدمت الخبيرة المتخصصة في الشأن السوداني شينا لويس أدلة للمجلس. وكانت قد عادت من السودان قبل أيام، غاضبة. 

من دون أن تذكر بريطانيا بالاسم، أدانت لويس تواطؤ الدول «التي تواصل إعطاء الأولوية للاستثمارات الإماراتية» على حساب العائلات الجائعة في الفاشر. 

تساءلت: أين ضمير المجلس؟ قبل عام، كانت المناقشات تتحدث عن احتمال تدخل قوات أممية في دارفور لفتح الطريق إلى الفاشر بالقوة إن لزم الأمر. كما ناقشت بعض الدول سراً فرض عقوبات على الإمارات. 

أما الآن، فقد انخفض سقف الطموحات. فالمجلس استقر على السعي لهدنة إنسانية مدتها أسبوع واحد. 

غادرت لويس مقر الأمم المتحدة محبطة. مقتنعة بأن إبادة جماعية تلوح في الأفق، كانت تخشى أن المجلس «يكتفي فقط بإصدار البيانات». 

30 يونيو – مفاوضات سرية تجري 

رفضت قوات الدعم السريع الهدنة الإنسانية التي اقترحتها الأمم المتحدة. ولتأكيد ذلك، قصفت الفاشر بالصواريخ. واقتحم مقاتلوها مركز المدينة حتى وصلوا إلى مسجد التيجانية. 

في الشمال، حافظت مريم على موقعها. وساعدت مدفعية سارة بخيت في صد المهاجمين. وخلال المعركة، كانت الأم لثلاثة أطفال هدفاً دائماً للقناصة. 

ورغم الرفض العلني من الدعم السريع للهدنة، كشفت وثائق داخلية قصة مختلفة. 

فقد عُقد اجتماع سري في مكان لم يُكشف عنه بين مسؤولين أمريكيين وأمميين واللواء عمر حمدان، كبير مفاوضي الدعم السريع.واعتبر الاجتماع نجاحاً. وارتفعت الآمال بأن يُسمح بدخول المساعدات إلى الفاشر قريباً. 

وجاء في الوثائق: «مع أن التزاماً رسمياً لم يُقدَّم بخصوص الهدنة في الفاشر، فإن قيادة الدعم السريع أشارت إلى أن المقترح سيُراجع داخلياً. وسيُقدَّم رد بعد مزيد من المشاورات». 

وقالت مصادر إن هذه المشاورات ستشمل الإمارات. وكانت أبوظبي قد أعلنت سابقاً دعمها للهدن الإنسانية. 

كان التفاؤل كبيراً لدرجة أن مسؤولي الأمم المتحدة اعتبروا أن المسألة باتت مسألة وقت، لا أكثر. 

وعبّرت وثيقة عن الأجواء قائلة إنه «تحسباً للهدنة في الفاشر» يجب أن تبدأ فوراً التحضيرات لـ«إعادة تموضع استراتيجي للإمدادات الإغاثية الحرجة عبر مواقع رئيسية في دارفور لتمكين نشرها السريع». 

وتم تجهيز قوافل محمّلة بالمساعدات في انتظار الضوء الأخضر. 

يوليو  

2 يوليو – الكشف عن مقابر جماعية جديدة وصمت لندن

ازدحمت قاعة غيلدهول في لندن بجمهور كبير للاستماع إلى خطاب رئيسي حول أفريقيا ألقاه ديفيد لامي. دعا فيه إلى «إعادة ضبط» العلاقات، وذكر بالاسم 10 دول من القارة. لكن السودان – ثالث أكبر دولة في أفريقيا – لم يُذكر. 

في بورتسودان، كانت تُبذل «محاولات تواصل متعددة» مع قادة الدعم السريع من قِبل مسؤولي الأمم المتحدة، في محاولة يائسة لمعرفة كيفية إدخال المساعدات إلى الفاشر. الوقت كان يضيق. فقد وثّقت الأقمار الصناعية مئات التلال الجديدة للمقابر داخل المدينة.

كانت الولايات المتحدة مستاءة من غياب الاستعجال. وبدأت الضغط مباشرة على محمد حمدان «حميدتي» دقلو، قائد الدعم السريع الخاضع لعقوبات بسبب الفظائع في دارفور.وتشير وثائق أممية إلى أن «الولايات المتحدة ظهرت كأكثر الأطراف انخراطاً، إذ باشرت اتصالات مباشرة مع قيادة الدعم السريع».وفي أماكن أخرى، أوكلت مهمة حشد الدعم الدبلوماسي للفاشر إلى بريطانيا ودول أخرى. وفي نيالا، كانت قافلة المساعدات جاهزة. يقول مسؤول أممي: «كنا ننتظر الضوء الأخضر». 

7 يوليو – المدنيون مجبرون على أكل علف الحيوانات 

لم يسبق لــ سارة بخيت أن عرفت الجوع بهذا الشكل. أُغلقت “التكية” في المدينة – التي كانت توزع الطعام المتبرع به – ولم يعد لديها ما تقدمه. في نايفاشا، عرض بعض التجار الصامدين ما تبقى لديهم من القليل. تقول سارة بخيت: نحن على مشارف المجاعة.” 

اتجه الناس إلى “الأمباز”، وهو معجون بني غير شهي مصنوع من الفول السوداني المضغوط ويُستخدم تقليدياً كعلف للماشية. وقد سبّب الأمباز تقلصات وإسهالاً للأطفال. 

ورغم افتقاره المزمن للفيتامينات والمعادن الأساسية، فقد تجاوز الطلب عليه حجم المعروض. عاشت مريم و سارة على وجبة واحدة يومياً من الأمباز.في هذه المرحلة، اعتقد الأكاديميون أن سكان الفاشر ربما يواجهون مستويات غير مسبوقة من الجوع.بيانات أولية غير منشورة، وثّقت تأثير حصار طويل في جبل أولياء وسط السودان، كشفت عن معدلات “مرتفعة للغاية” من سوء التغذية، أعلى من أي مستويات سُجلت هناك سابقاً. 

 

11 يوليو – المدافعون الجوعى فاقهم العدو عدداً 

مع بزوغ النهار بدأ هجوم جديد، وهذه المرة من الاتجاة الجنوبي. أكد المراقبون أن المحاولة الـ220 للسيطرة على المدينة كانت الأكبر حتى الآن. حاولت سارة بخيت صدّ المهاجمين، لكن المدافعين الجوعى كانوا أضعف وأقل عدداً. 

يقول محقق في تجارة السلاح: كانت كميات من الأسلحة الجديدة تصل إلى الفاشر بسرعة جعلت حتى قوات الدعم السريع عاجزة عن مواكبتها.” 

على مدى سبع ساعات تقدمت قوات الدعم السريع، واستولت على سوق الماشية، السجن، ومقر عسكري. وبحلول بعد الظهر، لم يكن يفصلها عن موقع سارة بخيت سوى كيلومتر واحد فقط. 

مع حلول الغسق انسحبت القوات. رأت سارة بخيت أن ذلك “نصر أجوف”. فالهجوم كان أول مرة تجتاح فيها قوات الدعم السريع المدينة بأعداد كبيرة منذ بدء الحصار. 

في لندن وواشنطن، كانت الأقمار الصناعية تتابع التوغل لحظة بلحظة. وكان تقييم المحللين مقلقاً. 

يقول مصدر أمني: كانت الفاشر تتمايل. السؤال هو: كم من الوقت يمكنها الصمود؟ 

15 يوليو – إذلال وتعذيب وإعدام 

اشتد الحصار. أي شخص يدخل أو يخرج من الفاشر كان يُقبض عليه. التُجّار جُلدوا وضُربوا. بعضهم أُذلّ: أُجبروا على الرقص على أنغام موسيقى عربية أو “الثغاء” كالأغنام. آخرون أُعدموا ببساطة. 

داخل المدينة، كان عبد السلام يعيش تحت القصف المتواصل. تلاشت أي آمال بالفرار مع أسرته. لم يكن بوسعه سوى الانتظار لنجدة قد لا تأتي أبداً. 

يقول عبد السلام: لن نهرب أبداً، مطلقاً.” 

أما سارة بخيت، فظلت تصر على إمكانية النصر. “سنفوز بهذه المعركة!” ، قالت لكل من قابلته. 

قبل عقدين من الزمن، كانت قد التقت بالأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، كوفي عنان، في دارفور، عندما هبّ الغرب لحماية الناجين من الإبادة الجماعية.تساءلت سارة: لماذا لا يعود العالم لإنقاذهم من جديد؟ ومع ذلك، كانت مستعدة للقتال حتى الموت. 

لم تكن تعلم أن على بُعد ثلاث ساعات فقط، في نيالا، كانت تُحضَّر مساعدة للفاشر. ففي مستودع مركزي، انتظرت 28 شاحنة محملة بالمعدات الطبية والغذاء لما يقارب 100 ألف شخص. 

يقول مصدر أممي: كنا مستعدين تماماً. ما الذي عطّل التنفيذ؟ 

18 يوليو – تدمير مساعدات غذائية تكفي 40 ألف شخص 

أخيراً، استجابت قوات الدعم السريع للمطالب بوقف إنساني مؤقت. لكن الآمال في هدنة لالتقاط الأنفاس في الفاشر سرعان ما تلاشت. فقد خلص رد مكتوب من المجموعة إلى أن إدخال المساعدات إلى المدينة “غير ممكن”. 

غير أن الرد حمل بصيص أمل: إذ أبدت القوات استعدادها لفتح ممرات إنسانية لتسهيل “الخروج الآمن للمدنيين”. 

هل كانت خدعة؟ أشارت معلومات استخباراتية إلى أن قوات الدعم السريع تعتقد أنه لم يبقَ “أي مدنيين” في الفاشر. كما أنها أرادت قتل كل المقاتلين. 

في نيالا، جرى تفكيك القافلة جزئياً. وقد فسدت كميات كبيرة من المساعدات: أُتلف طعام يكفي 40 ألف شخص. 

27 يوليو – قوات الدعم السريع تُطوِّق المدينة 

حول الفاشر، رصدت الأقمار الصناعية مشهداً غريباً يبرز من الصحراء: تحصينات ترابية ضخمة – لا يقل طولها عن 9 أميال – تطوّق المدينة. 

كانت قوات الدعم السريع تبني جداراً حول الفاشر. أصبح الدخول إلى المدينة مقصوراً على ممر ضيق لا يتجاوز 50 ياردة بين السواتر، حيث كان الحراس يعدمون من يمرّ. 

يقول عبد السلام: “إنه أشبه بخندق. دخول المدينة أصبح ممنوعاً.”

ومع أن الحصار قلّل أكثر من دخول الطعام، وجعل الأمباز نادراً، إلا أن القصف كان يزداد كثافة. انضم جيرانه إلى دورات إسعاف أولي تحسباً لإصابة أقاربهم. 

فبينما منعت المتاريس العملاقة دخول الطعام، منعت أيضاً خروج الناس. من يحاول تسلق السواتر ليلاً يُطلق عليه الرصاص. لقد أصبحت المدينة “صندوق قتل” يخنقها. 

يقول عبد السلام: “أي شخص يغادر يُختطف أو يُسلب أو أسوأ من ذلك. لا خيار أمامنا سوى البقاء.” 

لكن البقاء يعني المجاعة. لقد حُدد مصير الفاشر فعلياً في اجتماع سري آخر قبل أيام. إذ التقى مسؤولون أمميون مجدداً بالمفاوض التابع للدعم السريع، حمدان، متوسلين إظهار بعض الرحمة. 

لكن مزاج حمدان كان قد ازداد صلابة. تلاشت الآمال المتبقية في هدنة إنسانية. قال حمدان: السماح بدخول المساعدات أصبح غير وارد.” 

3 أغسطس – قوات الدعم السريع تستأجر مرتزقة لتعزيز قواتها  

أصبحت محاولات اقتحام الفاشر ذات طابع دولي. فقد تجمع مقاتلون أجانب على أطراف المدينة. تقول سارة إنها شاهدت ليبيين، إثيوبيين وكولومبيين إلى جانب قوات الدعم السريع. وأفاد أصدقاؤها بأنهم سمعوا صيحات باللغة الإسبانية. 

كما تدفقت تعزيزات قوات الدعم السريع من منطقة الساحل. داخل الفاشر، كان أصعب وقت هو ما قبل القصف، كما يصف عبد السلام. 

يقول: الجميع يخشى القذيفة الأولى – قنبلة الشهداء. لا يمكن التنبؤ بها. بعدها، يسرع الجميع للبحث عن غطاء.” 

وكان الغطاء يعني الخنادق. فالجميع ينكمش داخلها، يعدّون القذائف لساعات متواصلة. وقد أصبح عبدالسلام بارعاً في تمييز أصوات الأسلحة الموجهة لقتله: دوي مدافع AH-4، صرخات راجمات الكاتيوشا. 

لكن الطائرات المسيّرة الانتحارية كانت الأكثر تدميراً للأعصاب. فقد ظلّت تحوم فوق حيّه ليلاً ونهاراً. 

 

7 أغسطس – فخ “الممر الآمن 

كان فخاً. فوعود قوات الدعم السريع بمرور آمن كانت عكس ذلك تماماً. مجموعات كاملة حاولت الفرار فتمت إبادتها. مجموعة من 50 مدنياً اختُطفت. 

ظهرت لقطات متفرقة توثق الفظائع. أشهرها ما حدث لصاحب مطعم في سوق نايفاشا، الذي أُعدم على يد ضابط في قوات الدعم السريع. كان جار عبد السلام ، وخلّف وراءه طفلاً صغيراً. 

أما القليل المتاح من الطعام فكان باهظ الثمن: أعلى بسبع مرات من المعتاد. 

عاجزاً عن الشراء، لجأ عبد السلام إلى الأمباز. وأرسل صورة لطبق شاركه مع دجاجاته. أما سارة، فكانت قلقة بشأن وجبتها التالية. 

ازدادت حدة القصف، واستمر من العاشرة صباحاً حتى السادسة مساءً بلا انقطاع. جلس عبد السلام في الخنادق يعدّ القذائف: بين 200 و300 قذيفة في كل مرة، كلها تستهدف المناطق المدنية.” 

10 أغسطس – لا هدنة 

أمام أدلة دامغة على أن قوات الدعم السريع تستعد لاجتياح الفاشر، اتفق كبار مسؤولي الأمم المتحدة على ضرورة الضغط على الجهة التي تطيعها قوات الدعم السريع: الإمارات. 

تؤكد وثائق وجود ضغط دبلوماسي “مكثف” وُجّه نحو الإمارات. 

وانضمت الولايات المتحدة بشكل كامل. إذ ناشد مسؤولون كبار في وزارة الخارجية، بينهم بيتر لورد، نظراءهم في وزارة الخارجية الإماراتية لرفع الحصار. 

كان لورد يعرف ما هو على المحك. فهو الرجل الثاني في مكتب الشؤون الأفريقية، وكان سابقاً مستشاراً أول للسودان. وكان يدرك احتمال وقوع إبادة جماعية إذا استولت قوات الدعم السريع على الفاشر. 

لكن جهود واشنطن – التي وُصفت في الوثائق بأنها “ضغط مستمر” – لم تسفر عن هدنة. 

وبينما تزايد الإحباط، أرادت الولايات المتحدة جمع الدعم السريع والجيش في قاعة واحدة. فتم الترتيب لقمة حول السودان في جنيف، حيث التقى المسؤولون الأميركيون بممثلين عن الإمارات في محاولة جديدة للحصول على رحمة للفاشر. 

إلا أن الوثائق تكشف أن الإمارات، بدلاً من التجاوب، يبدو أنها تدخلت بنشاط لإفشال أي احتمال لوقف إنساني لصالح المدينة المحاصرة. وقد رفضت الإمارات التعليق. 

فبدلاً من دعم إدخال المساعدات إلى الفاشر، دفعت الإمارات باتجاه ربط مصير المدينة بسلسلة من الهدن الإنسانية لمدن محاصرة في كردفان المجاورة. 

كان ذلك كفيلاً بقتل فرص إنقاذ الفاشر. إذ إن اقتراح الإمارات فرض استراتيجية أكثر تعقيداً وصعوبة. 

تكشف الوثائق: الإمارات أشارت بشكل غير رسمي إلى أنه قد يكون هناك قبول أكبر إذا نوقشت الفاشر وكردفان كحزمة واحدة – أي أن قوات الدعم السريع قد تُعتبر ‘خاسرة للمعركة السياسية’ إذا سمحت بحدوث الهدنة في الفاشر فقط.” 

وبناءً على تدخل الإمارات، بدأ مسؤولو الأمم المتحدة – على مضض – في تحديد “مواقع قابلة للتنفيذ عملياً” داخل كردفان، وهي عملية استلزمت مفاوضات جديدة بلا ضمان للنجاح. 

ورأى كثيرون أن استمالة الإمارات كانت “المحاولة الأخيرة”. لكن المساعدة للفاشر لم تكن يوماً بهذا القدر من التلاشي. 

11 أغسطس – الهجوم على أبو شوك

انهمر وابل من قذائف المدفعية على المنازل الهشة في أبو شوك. مئات السكان، كثير منهم يحملون أطفالاً، اندفعوا جنوباً. كانت مريم تنتظر قرب السوق. عشرات من شاحنات قوات الدعم السريع هرعت جنوباً، تطلق النار على السكان الفارين بعيداً. 

أُصيبت مريم واضطر آخرون لحملها نحو المطار. أصيب اثنان من أطفالها ضمن 19 جريحاً. وعندما انسحبت قوات الدعم السريع، كان أكثر من 50 مدنياً ملقين قتلى وسط أنقاض المخيم. 

13 أغسطس – قوافل المساعدات تُعاد تعبئتها مع تصاعد الآمال 

ركز الهجوم على أبو شوك – في انتهاك صارخ للقانون الدولي – أنظار مجلس الأمن الدولي. وأكد بيان المجلس مجدداً ضرورة إنهاء الحصار، وأثبت أن قوات الدعم السريع تستهدف المدنيين عمداً. لكن لم تُفرض أي عقوبات جديدة على قيادة الدعم السريع. 

في نيالا، أُعيدت تعبئة القافلة الموجهة إلى الفاشر. تفاؤل أعمى في رأي البعض، لكنه تعزز بتوقع بدء محادثات في جنيف في اليوم التالي. 

سرعان ما تبددت الآمال: لم يحضر لا الدعم السريع ولا الجيش السوداني. 

في الفاشر، زارت سارة المستشفى السعودي حيث كانت مريم تتعافى. تقول: قدّمتُ لمريم دعمي من أجل شفاء تام.” 

لكن بخيت كانت قلقة بشأن فرص نجاتها. فبدون أدوية، ولا حتى مسكنات، يمكن لأي إصابة أن تكون قاتلة. 

يقول إبراهيم سليمان، المقيم في المدينة: نستخدم الأدوية العشبية، والأوراق – والكثير من الدعاء.” 

كان آخر مستشفى عامل مزدحماً للغاية. تقول سارة: القصف المستمر أصاب كثيراً من المدنيين.” 

لكن القاتل الأكبر لم يأتِ من السماء. تقول الخبيرة الإقليمية هالة الكارب إن الأطفال كانوا “يموتون فوراً” من الجوع. أما المكملات الغذائية للأطفال فقد انتهت صلاحيتها منذ أشهر. 

وتضيف: معدلات الإجهاض كانت “مرتفعة جداً”. وأصبحت الولادة بمثابة حكم بالإعدام. 

 

17 أغسطس – خطة جريئة من الأمم المتحدة لإيصال المساعدات 

تحولت الأنظار نحو السماء. درست الأمم المتحدة إمكانية استخدام خدمة الطيران الإنساني التابعة لها لإسقاط مساعدات فوق الفاشر. حتى احتمال إشراك سلاح الجو الأردني – الذي نفذ إسقاطات فوق غزة مؤخراً – طُرح للنقاش. 

العقبة كانت أنظمة الدفاع الجوي التي تمسح سماء الفاشر. 

وحذّرت قوات الدعم السريع أن طائرات الأمم المتحدة أهداف مشروعة. يقول مصدر بالأمم المتحدة: “لقد رفضوا منحنا مروراً آمناً.” 

في كل الأحوال، كانت الحاجة ضخمة. يقول المصدر: “لا يمكنك إسقاط مساعدات جوية كحل لمأساة بحجم الفاشر: الطائرة تحمل جزءاً يسيراً مما تحمله الشاحنة.” 

أصبح مسؤولو الإغاثة في حالة من القلق، و وُضعت خطة: بموافقة الدعم السريع، ستدخل شاحنات الإغاثة إلى دارفور، لكن ليس إلى الفاشر. في الواقع، كانت حمولتها موجهة للمدينة المحاصرة. 

20 أغسطس – التجويع وخطوط المواجهة  

وصلت القافلة إلى مليطعلى بُعد 56 ميلاً شمال الفاشر – وقت الظهيرة. لا بد أن قوات الدعم السريع قد ارتابت. بعد قليل، ضربت طائرة مسيرة القافلة، ودمرت 3 من أصل 16 شاحنة. 

لم يثنِ ذلك العزم. بدأ شبكة من المهرّبين في نقل المساعدات المتبقية جنوباً. 

لكن هل يمكنهم اجتياز المتاريس الترابية، وفرق القتل، ونقاط التفتيش؟ 

داخل الفاشر، أصبح الأمباز مطلوباً كما لو كان طعاماً فاخراً. كان السكان يخففونه بالماء. أكل عبد السلام الأعشاب التي نبتت في الشوارع. آخرون خاطروا بشرب عصير من أوراق يُسمى اقتلني الذي يعرف عنه انه يسبب المغص. 

ماتت أسرة من ستة أفراد أثناء نومها بعد أن تناولت بقايا طعام فاسد. أما سوق نايفاشا فواصل بالكاد عمله. بلغ سعر الأرز 50 جنيهاً إسترلينياً للكيلوغرام. كيس الأمباز بيع بـ110 جنيهات.
 

تعافت مريم – وعادت مباشرة إلى خطوط المقدمة بمعسكر أبو شوك. 

كانت مشغولة. فقد دفعت قوات الدعم السريع عميقا داخل المخيم. ومع استهدافها المتواصل بالطائرات المسيّرة، اتُخذ القرار بالانسحاب. 

وكانت القصة نفسها في أرجاء المدينة. جنوباً، انسحبت القوات من سوق الماشية، وحدات المحور الشرقي أيضاً تراجعت. 

وكان يبدو ان سقوط الفاشر بات محتوماً. 

 

27 أغسطس – 500 يوم من الحصار 

بعد مرور 500 يوم من بداية الحصار، استمرت ازمة الفاشر في التفاقم. 

بصورة لا تُصدق، تكثف القصف أكثر. بين 700 وألف قذيفة كانت تسقط يومياً. بيت جار سارة بخيت لم ينجو فقد سوي بالأرض. 

عبد السلام قضى أياماً كاملة داخل الخنادق. إلى الشمال، قرب موقع مريم، زحفت فرق خطف تابعة للدعم السريع، واختطفت عشرات النساء والأطفال. لم يُشاهد أي منهم مجدداً. 

أصبح معظم معسكر أبو شوك تحت سيطرة الدعم السريع.اما خارج المدينة فقد واصلوت قوات الدعم السريع بناء المتاريس الترابية. الفاشر كانت مطوّقة بالكامل. 

أما مسؤولو الأمم المتحدة فرفضوا الاعتراف بالهزيمة، وظلوا يلاحقون الدعم السريع بالنداءات. لكنه كان كالصراخ في الفراغ.  

 

4 سبتمبر – وصول قافلة مساعادات  

فجأة وصل طعام إلى الفاشر. يقول عبد السلام ببهجة: “الوضع أصبح أفضل فجأة.” بل تنبأ بانخفاض الأسعار. 

كان السكان مذهولين من التدفق المفاجئ. لكن الخطة السرية للأمم المتحدة نجحت.كانت حلا موقتا. كان مسؤولو الأمم المتحدة يعلمون أنه لا يمكن تكرارها. من الآن فصاعداً، الفاشر وحدها في مواجهة مصيرها. 

في في ذات التوقيت في العاصمة البريطانية لندن، استقبل ديفيد لامي وفداً إماراتياً. كانت من آخر أعماله كوزير للخارجية. وبعد يوم واحد، غادر منصبه. 

 

15 سبتمبر – التخلي عن الأمل 

تُرك أي ادعاء بأن المساعدة قد تصل الفاشر. تقبّل الجيش السوداني الانهيار الوشيك، وزرع حقول ألغام حول مواقعه. 

أصبح وقف اطلاق النار الإنساني مستحيلاً. يقول مصدر أممي: “إزالة الألغام المطلوبة لإيصال المساعدات ستكون هائلة وتستغرق وقتاً طويلاً. تحتاج إلى وقف كامل لإطلاق النار، وهو ما لن يوافق عليه أحد.” 

داخل الفاشر، كان المزاج ايجابيا. وبعد أن تُركوا وحدهم، استثمر السكان إيمانهم في مقاتليهم. 

كانت سارة بخيت مقتنعة أن كتيبة ابنها – على بعد 300 ميل شرقاً – ستصل لإنقاذهم. سيأتي. فقط شاهدوا!” وكان عبد السلام متفائلاً بالمثل: “الناس متفائلون جداً بمقاتلينا المتقدمين.” 

 

22 سبتمبر – وحدهم 

اجتمع قادة العالم في نيويورك لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة. خُططت عدة مناقشات حول الفاشر. لكن ذلك كان متأخراً جداً. 

كانت دفاعات المدينة تتهاوى. ومع اقتراب نهاية موسم الأمطار، شنّت قوات الدعم السريع أعنف هجماتها. 

سقط سوق نايفاشا. واقتحم المهاجمون قاعدة عسكرية رئيسية – مقر بعثة اليوناميد السابقة. اجتاحوا أبو شوك، الذي كان يأوي 190 ألفاً من الناجين من الإبادة الجماعية. الأسر تدفقت جنوباً يائسة بحثاً عن مأوى. 

وبدعم من طائرات مسيّرة جديدة، دُمّرت أحياء كاملة. أصيب منزل عبد السلام بقذيفة، فسقط سقفه. دُمّر مسجد مجاور. جثث أصدقائه تناثرت في الشارع. 

نُصح الناجون بعدم مغادرة بيوتهم. جائعين لكن غير خاضعين، انسحب مع زوجته وابنه إلى أنقاض منزله. كانت قوات الدعم السريع على بُعد 600 ياردة فقط من بابه. يقول: “هذه الأيام صعبة للغاية.” 

قريباً من هناك، كانت سارة تقاتل بلا توقف، محاصرة مع تقدم المهاجمين من ثلاث جهات. 

وسط الفوضى، اختفت مريم عبد الغفار وفشلت محاولات العثور عليها. تشير آخر المشاهدات إلى أنها اتجهت شمالاً، متشبثة ببندقيتها، لتدافع عن أبو شوك. 

تقول صديقتها زبيدة: “كان ذلك واجبها. كانت تعرف أنه لا أحد قادم لمساعدتنا.” 

ربما، بطريقة ما، لا تزال الجدة هناك، ترفض التراجع، تقاتل بكل ما تملك من أجل مدينتها المحكوم عليها بالسقوط. 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى