الجوع كسلاح إبادة: غزة والفاشر وامتحان الضمير الإنساني

أمجد فريد الطيب
المجاعة ليست نتيجة جفاف طبيعي أو شح موارد بقدر ما هي انعكاس لخيارات سياسية. هذا ما بيّنه أمارتيا سن الاقتصادي الهندي البارز الحائز على جائزة نوبل في عمله الرائد حول الفقر والمجاعات في سبعينات القرن الماضي، حين أكد أن المجاعات ليست ناتجة عن غياب وجود الطعام في ذاته، بل عن غياب إمكانية الحصول عليه. هذه الحقيقة تتجلى اليوم بأبشع صورها في غزة والفاشر، حيث يتم استعمال التجويع عمداً كسلاح حرب.
نحن أمام حالتين متوازيتين: في غزة، يُترك أكثر من مليوني إنسان فريسة للتجويع المنظم عبر حصار مطبق تفرضه اسرائيل، وفي الفاشر في شمال دارفور حيث تفرض مليشيا قوات الدعم السريع الحصار على مليون مدني منذ مايو 2024، في تكرار مأساوي لذاكرة الإبادة في الإقليم. المشهدان يكشفان عن عطب عميق في النظام الدولي: صمت، تواطؤ، وحياد زائف يساوي بين الجلاد والضحية. تتطلب المآسي التي تحدث على أساس يومي في غزة والفاشر انتباهاً اكثر مبدئية وأكثر أخلاقية من المجتمع الدولي وتدخلاً عاجلاً، يقوم على مخاطبة الواقع الفعلي لهذه الأزمات، بشكل يتجاوز الراحة الوهمية للحياد الشكلي الكاذب بين الأطراف. إذ لا يمكن للعالم أن يحول بصره عن تسليح الجوع، وإلا أصبح شريكاً في استمراره.
التاريخ الدموي للتجويع
لطالما كان التجويع السلاح المفضّل للفاشية في حروب الإبادة، فالتاريخ البشري زاخر بفصول دامية تؤكد أنّ المجاعة المصنوعة ليست كارثة طبيعية ولا نتيجة عرضية للنزاع، بل أداة مقصودة لكسر إرادة المجتمعات وإخضاعها بالإذلال والموت البطيء.
من أوكرانيا إلى غزة، ومن إثيوبيا إلى دارفور، يتكرّر النمط ذاته بتجليات مختلفة، لكن بجوهر واحد: تحويل الطعام، أبسط مقومات الحياة، إلى وسيلة قهر سياسي وعسكري.
ففي ثلاثينيات القرن الماضي، شهدت أوكرانيا واحدة من أبشع صور التجويع حين فرض ستالين سياسات مصادرة المحاصيل الزراعية، فمات الملايين في مجاعة “الهولودومور”. لم تكن تلك المجاعة ثمرة قحط أو جفاف، بل سلاحاً متعمداً استُخدم لتدمير مجتمع بكامله وشلّ إرادته. وفي حصار لينينغراد بين عامي 1941 و1944، ضرب النازيون طوقاً خانقاً حول المدينة طيلة 872 يوماً، قضى خلالها أكثر من مليون إنسان جوعاً وبرداً. لم يكن الهدف عسكرياً فحسب، بل كان إخضاعاً مدروساً عبر الموت الجماعي البطيء. وفي إثيوبيا خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، تحوّلت المجاعة إلى أداة حرب في إقليم تيغراي، حيث مُنعت المساعدات وفرضت عمليات ترحيل قسري. الصور المروعة التي هزّت ضمير العالم لم تكن نتاج الطبيعة، بل انعكاساً لسياسة ممنهجة. وفي سوريا خلال العقد الأخير، شاهد العالم فصول الحصار في الغوطة وحمص، حيث اضطر المدنيون إلى أكل الأعشاب للبقاء على قيد الحياة. الحصار لم يكن عارضاً، بل ممارسة مدروسة لتحويل الجوع إلى سلاح قمع. في غزة وفي الفاشر تتكرر هذه الوقائع، الممتدة من الماضي إلى الحاضر، ليس كأحداث متفرقة، بل حلقات متصلة في سلسلة واحدة مظلمة: سلسلة استخدام الجوع كسلاح سياسي.
غزة والمأساة الفلسطينية المتطاولة
تتبدّى مأساة غزة في قلب ازمة الشرق الأوسط المتطاولة وهو صراع أحال حياة الفلسطينيين إلى حلقة مغلقة من التهجير والحرمان والمعاناة. فمنذ هجمات حماس في 7 أكتوبر 2023 وما تبعها من ردّ عسكري إسرائيلي واسع، يعيش أكثر من 2.3 مليون إنسان في قطاع غزة تحت حصار خانق قطع شرايين الحياة الأساسية. وبحلول أغسطس 2025، أعلن التصنيف الأممي للأمن الغذائي المتكامل (IPC) أنّ غزة دخلت رسمياً مرحلة المجاعة القصوى من المرحلة الخامسة، وهي الدرجة الأعلى في سلم الكارثة الغذائية.
هذا الوضع ليس حادثاً عرضياً ولا نتيجة ظرف طارئ، بل ثمرة سياسة إسرائيلية متعمّدة. فالتقارير الصادرة عن منظمة العفو الدولية وخبراء الأمم المتحدة تكشف بوضوح كيف أن القيود المفروضة على دخول المساعدات، إلى جانب تدمير البنية التحتية الزراعية وشبكات المياه، قادت إلى انهيار منهجي لقدرة المجتمع على توفير الغذاء. وقد حذّر الخبير الدولي أليكس دي وال بأنّ غزة وصلت إلى نقطة “لم يعد مجتمعها قادراً ببساطة على إعالة نفسه”، متهماً إسرائيل بارتكاب “تجويع إبادي“ يترك جروحاً عميقة لن تندمل لأجيال قادمة.
الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وصف الوضع في غزة بأنه “كارثة من صنع الإنسان“، لكنه تجنّب الإشارة في بيانها إلى من يقف خلفها، واكتفى بمطالب سياسية عامة، قد تكون وجيهة في سياق الصراع الأوسع، لكنها تتجاوز القضية الجوهرية للبيان: المجاعة المصنوعة نفسها. هذا التجاوز ليس عجزاً في صياغة البيان فحسب، بل يعكس خللاً أخلاقياً أوسع، إذ يختزل المأساة في التوصيف السياسي ويصرف النظر عن المسؤولية المباشرة عن جريمة التجويع. وبذلك يصبح التجويع قابلاً للتطبيع كسلاح مشروع في الحرب، ويجد مستخدموه سبيلاً إلى التبرير أو الإفلات من العقاب عبر الوسائل السياسية. ولكن مهما كانت تعقيدات الصراع وتشابكاته السياسية والعسكرية، تبقى هناك حقيقة لا تقبل المواربة: الأطفال الذين يتضورون جوعاً ويموتون يومياً في غزة لا يملكون ترف الانتظار حتى تسفر مفاوضات وقف إطلاق النار أو صفقات تبادل الأسرى عن نتائجها.
إنّ القيود الإسرائيلية المفروضة على دخول الغذاء والدواء، مهما صيغت لها ذرائع أمنية أو دوافع انتقامية، لا يمكن القبول بها ولا تبريرها. فهي لا تنتهك القانون الإنساني الدولي فحسب، بل تقنن استعمال التجويع كسلاح مقبول في الحروب وتطيل دائرة الإفلات من العقاب، وتُقوّض في جوهرها مبادئ الكرامة والعدالة التي يفترض أن تُشكل الضمير الأخلاقي للعالم.
حصار الفاشر وشبح الإبادة الجماعية
في نفس الوقت وفي ركن آخر من العالم، في مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور بالسودان، تتكشّف مأساة مشابهة. تخوض القوات المسلحة السودانية حرباً ضارية ضد قوات الدعم السريع منذ أبريل 2023. هذه الحرب شرّدت ملايين المدنيين حول السودان، ولكنها حوّلت الفاشر إلى بؤرة مجاعة خانقة. وأكد التصنيف الاممي للأمن الغذائي المتكامل أنّ المجاعة قد تتسع لتشمل أكثر من مليون ونصف المليون شخص في المدينة ومعسكرات النزوح القريبة مثل زمزم وأبو شوك.
منذ مايو 2024، فرضت مليشيا قوات الدعم السريع حصاراً كاملاً على الفاشر. أغلقت المليشيا الطرق المؤدية الي الفاشر، ونهبت القوافل، ومنعت وصول المساعدات الإنسانية. وأعادت دارفور – التي ما زالت تحمل جراح إبادة 2003-2008 – إلى مسرح جديد للتجويع. اضطرت العائلات اليائسة الي تناول علف الحيوانات كطعام للبقاء على قيد الحياة بينما يموت الأطفال من سوء التغذية الحاد تحت قصف لا يتوقف.
تستخدم قوات الدعم السريع –الميليشيا المنحدرة من إرث الجنجويد- الجوع كسلاح بشكل منهجي. وقد صنّفت الولايات المتحدة أفعال على انها إبادة جماعية، في تذكير بفشل المجتمع الدولي السابق في دارفور. ورغم ذلك، تنكر قوات الدعم السريع أفعالها وتدّعي أنّ حربها هو محاولة إصلاح ضد بقايا نظام عمر البشير المخلوع. لكن أدلة الممارسات الفاشية الممنهجة للانتهاكات ضد المدنيين تكشف عدم صحة هذه المزاعم.
بيانات مشروع رصد مواقع وأحداث النزاع المسلح ACLED تشير إلى أنّ قوات الدعم السريع نفذت 77% من أعمال العنف ضد المدنيين في السودان بنهاية عام 2024، بينما جاءت نسبة بقية الأطراف أقل بكثير، بما فيها القوات المسلحة السودانية. وفي عام 2025 واصلت القوات ذاتها النهج نفسه. فقد وثّق تقرير صادر عن منظمة “إنسايتس” المستقلة مقتل 765 مدنياً في شهر يوليو وحده، ونسب 88% من هذه الجرائم إلى قوات الدعم السريع.
رغم وضوح أسباب الكارثة والفاعلين فيها، عجزت الاستجابة الدولية عن التصدي الفاعل بوضوح لها. في يونيو 2025، اقترح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش هدنة إنسانية لسبعة أيام لتسهيل إدخال المساعدات إلى الفاشر. وافقت الحكومة السودانية على اعلى مستوياتها على مقترح غوتيريش الذي تلقى موافقة مباشرة من عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني، لكن قوات الدعم السريع رفضت المقترح وواصلت هجماتها على الفاشر والتي استهدفت المدنيين بشكل مباشر. وفي غضون عشرة أيام فقط من أغسطس، قتلت المليشيا 89 شخصاً في الفاشر ومحيطها خلال هذه الهجمات.
وفي 18 أغسطس، وجّه رئيس الوزراء السوداني رسالة إلى مجلس الأمن دعا فيها الأمم المتحدة إلى التحرك العاجل لرفع المعاناة عن الفاشر ومواجهة الكارثة الإنسانية المتفاقمة. وأكّد في رسالته أنّ ما يحدث هناك “ليس أزمة إنسانية فحسب، بل اختبار أخلاقي للأمم المتحدة”. بهذه الكلمات، نزع رئيس الوزراء كل ذريعة قد تتكئ عليها المنظمة الدولية لتبرير صمتها أو استمرار عجزها الفاضح عن التعامل مع مأساة الفاشر.
تزيد التشابكات الجيوسياسية من تعقيد الأوضاع في الفاشر، إذ أتاح الدعم الخارجي للمليشيا العمل بلا عقاب، مستفيداً من النفوذ الدولي لرعاتها لتفادي المساءلة. وثّقت تقارير عديدة، منها صادرة عن لجنة خبراء الأمم المتحدة واحاطات الحكومة الأمريكية للكونغرس ، تزويد المليشيا بالأسلحة من أطراف خارجية، بما أتاح ارتكابها لجرائم واسعة النطاق. كما أظهرت محاولات السودان أمام محكمة العدل الدولية أن هذا الدعم لم يقتصر على التسليح، بل شمل أيضاً التواطؤ السياسي الذي حال دون محاسبة حقيقية. وكما أسهمت قوى دولية أخرى مثل المملكة المتحدة، عبر محاولات التغطية أو كبح الانتقادات لهذا الدعم الخارجي، في توفير مظلة إضافية لإفلات المليشيا من العقاب. هذا التردد العالمي في مواجهة الرعاة الخارجيين حوّل الأزمة السودانية إلى ورقة مساومة في صراعات النفوذ، وأطال أمد المأساة الإنسانية.
التواطؤ الدولي والاختبار الأخلاقي الذي يواجه العالم
هذه الأزمات التوأم في غزة والفاشر ليست حوادث معزولة بل أعراض لتآكل أوسع في النظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يبرز التجويع المفرض كأداة إكراه في تحدٍ للقانون الإنساني الدولي ويتم استدعاء الحسابات الأمنية والسياسية لتبرير الفظائع. في كلا السياقين، يغذي الاستبداد المقارب للفاشية آلية الموت. مواجهة هذه الازمات لا تحتاج إلى إدانات جديدة، بل إلى خطوات ملموسة. ام التجاهل فهو ليس فعلاً سلبياً بل تواطؤ كارثي وتنازل عن المسؤولية الأخلاقية وغض للنظر عن بشاعة الحقيقة.
أولاً: يجب إعادة تعريف مبدأ “المسؤولية عن الحماية” بوصفه التزاماً أخلاقياً لحماية المدنيين من الإبادة، وتحريرها من من السجن الفكري الذي يتعامل معها كمجرد مرادف للتدخل العسكري، يجب إعادتها إلى جوهرها الأخلاقي والعملي الأصلي: حماية البشر من الإبادة لا مجرد شعار يرتبط بالتدخل العسكري أو الحسابات السياسية.
ثانياً: توفير الغذاء والدواء لم يعد خياراً مؤجلاً. على المجتمع الدولي أن يستعمل كل الأدوات المتاحة عمليها لإيصال المساعدات. الإسقاط الجوي للمساعدات الإنسانية لم يعد خياراً اخيراً في غزة والفاشر، بل هو الخيار الوحيد المتاح لإنقاذ حياة المدنيين. وهو اجراء يستند الي سوابق عملية أثبتت نجاحها من قبل (جسر برلين الجوي، عمليات جبال النوبة وجنوب السودان).
ثالثاً: لا يكفي التنديد بمنع المساعدات. يجب تسمية الجهات المعرقلة، إدانتها علناً، ومحاسبتها أمام القانون الدولي، سواء كانت أطرافاً محلية أو داعمين خارجيين يزودون الميليشيات بالسلاح أو يوفرون لها الغطاء السياسي.
رابعاً: المساءلة ركيزة أساسية. التجويع سلاح متعمد يرقى إلى جريمة إبادة، والتعامل معه كأمر ثانوي يشرعن الإفلات من العقاب. على المجتمع الدولي أن ينسب المسؤولية عن الجرائم بوضوح الي مرتكبيها: لإسرائيل في سياساتها في غزة، وللدعم السريع وداعميها في السودان.
خامساً: يجب كسر وهم “الحياد الأخلاقي”. المساواة بين الجناة وضحاياهم ليست حياداً بل تواطؤاً خطيراً. الاستسلام للتماثل الأخلاقي الكاذب الذي يمحو التمييز بين الجناة وضحاياهم، هو تشريع الإفلات من العقاب وتحويل الحياد إلى تواطؤ.
اللامبالاة والتجاهل هي الحاضنة الأوسع للشر وأخطر وجوهه. وكما قال أمارتيا سن فإن المجاعة ليست حتمية طبيعية، بل بناء سياسي. وما يصنعه القرار السياسي يمكن أن يُفككه قرار سياسي مضاد. ولكن الشرط الأول هو الاعتراف، والشرط الأعمق هو الفعل. إن المأساة في غزة والفاشر ليست مجرد كارثتين منفصلتين، بل إنذار نهائي: إن لم يستعد العالم جوهر إنسانيته، فسيتحوّل التجويع إلى سلاح الحرب المهيمن في القرن الحادي والعشرين، وسيتجلى الانهيار النهائي الأعمق للنظام الدولي، حيث تُفرَّغ القيم الإنسانية من معناها وتُستحضر كزينة خطابية، نادرة الحضور في ساحة الفعل.



