رأي

الإمبريالية الجديدة و “تسليح” الاستثمار في إفريقيا(2-3)

التيجاني عبد القادر حامد

(4) الإمارات في إفريقيا:

يلاحظ المراقبون أنّ دولة الإمارات العربية المتحدة تبنت منذ عقدين من الزمان استراتيجية اقتصادية توسعية في إفريقيا، اتخذت شكل استثمارات ضخمة في قطاعات متنوعة؛ تتراوح بين البنية التحتية والطاقة والغذاء والأمن والسلاح. وكأنّ هذه الاستثمارات لامست عصبا حياً في بعض الاقتصاديات العالمية الكبرى، فقد صارت تتصدر العناوين البارزة في الصحف العالمية، إذ تصف صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية كيف أنّ “الإمارات تُدفّق المال في إفريقيا بحثاً عن الموارد”.
أمّا صحيفة الفاينانشيال تايمز البريطانية فقد نشرت تقريراً موسعاً عن “النفوذ الإماراتي المتنامي في إفريقيا” أشارت فيه إلى أنّ الإمارات تعهدت في عامي 2022-2023 بفتح استثمارات إفريقية بمبلغ 97 مليار دولار في مجالات الطاقة المتجددة والموانئ، والتعدين والعقارات، والاتصالات، والزراعة والتصنيع؛ أي ثلاثة أضعاف ما تعهدت به الصين.

كما تشير مصادر عديدة إلى أن الإمارات تحصلت على أرضٍ زراعية في مصر والسودان وكينيا والمغرب وناميبيا وسيراليون ويوغندا وتنزانيا؛ فيما يشبه سياسة قضم الأراضي (land grabbing).

وتشير المصادر إلى استراتيجية “سلسلة الموانئ” التي تتبعها الإمارات؛ حيث تمكنت من خلال الاتفاقات الثنائية (أو الشراء) أن تستحوذ على إنشاء وإدارة ما لا يقل عن 12 ميناءً على السواحل الإفريقية.
أمّا في مجال المؤسسات المالية فتكفي إشارة إلى مدى توسعها في مصر مثلا، حيث يلاحظ أحد الاقتصاديين أن الإمارات قد توسعت في مصر بصورة غير مسبوقة على مدار العقد الأخير، وأصبحت مساهمة في خمسة من أهم البنوك العاملة في السوق المصرية، واستحوذت على مؤسسات مالية أخرى، واقتحمت سوق العقارات والصحة وتملّكت الفنادق.

ولم يكن مشروع رأس الحكمة المعروف في الصحافة الغربية بمشروع إنقاذ مصر إلا واحدة من حلقات التمدد الإماراتي الاقتصادي في أرض المحروسة.

وقد تضافرت بالطبع عدة عوامل- بعضها داخلي وبعضها خارجي- جعلت الإمارات تتعجل السير في هذا الاتجاه، ويأتي على رأس العوامل الداخلية هدفها المشروع المتمثل في تنويع مصادر دخلها بعيداً عن النفط؛ مما يستلزم الاستثمار في الزراعة والطاقة، وإقامة شبكات لوجيستية عبر الموانئ والمطارات.
أمّا العوامل الخارجية فتتمثل في حالة الانكفاء على الداخل لبعض الدول الكبرى، وهشاشة الأوضاع الاقتصادية والسياسية في معظم الدول الإفريقية وضعف حكوماتها، وتمدد الثورات العربية وتصاعد الخطاب الثوري بصفة عامة، وتزايد الطلب على الغذاء والطاقة.
ولا يوجد اعتراض كما ذكرنا على المشاريع الاستثمارية التي تتبع للإمارات في إفريقيا أو غيرها، ولكن الاعتراض يأتي من جهة “الأهداف” السياسية التي تسعى لتحقيقها، كما يأتي من جهة “الأدوات” التي تستخدمها؛ إذ يلاحظ المراقبون أنها عادة ما تتجه للجمع بين أدوات الاستثمار الاقتصادي والحضور الأمني والعسكري وعقد التحالفات مع الفاعلين السياسيين، والعسكريين؛ سواء كانوا في الحكومات أو في المعارضة. أي أنّ استثماراتها في إفريقيا سرعان ما تتحول من مجال الاقتصاد إلى مجالات الأمن والدفاع.
فهي في تعاملها مع الدول الإفريقية الهشة لا تسعى لشراء الأراضي وتشييد الموانئ فحسب؛ وإنما تسعى لبناء “جدران من المال” يسمح لها بتشكيل القوى السياسية في داخل هذه الدول، ويسمح لها بترفيع القيادات والرؤساء الذين يخدمون أهدافها- كحالة الرئيس السيسي في مصر، وأبي أحمد في إثيوبيا، وخليفة حفتر في شرق ليبيا، ومحمد حمدان دقلو في السودان، وكحالة آخرين في تشاد وجنوب السودان ويوغندا وكينيا.

ولا شك أن “تسليح الاستثمار” هذه مسألة بالغة الأهمية، وتوجد أمثلة صارخة لها في كل من المشهد الليبي والشادي والإثيوبي والسوداني، كما نوضح فيما يلي.

(5) “تسليح” الاستثمار:

– ليبيا:

بعد سقوط نظام العقيد القذافي، وما لحق ليبيا من حالات الفوضى والانقسامات المناطقية والسياسية؛ راهنت الإمارات على خليفة حفتر لضمان مصالحها ومدته بالمال والسلاح.

ويذهب بعض الباحثين المختصين في هذا الشأن إلى القول بأن الإمارات لم تدعم حفتر بشراء العتاد وحسب؛ وإنما اشترت له جيشا من المرتزقة وبعض فلول النظام السابق وعصابات المجرمين ووفرت له المستشارين والمدربين وأمّنت له القواعد العسكرية، أي أنها صنعت لها محمية في منطقة استراتيجية من الأراضي الليبية تطل من خلالها على المثلث النفطي على شواطئ البحر المتوسط، وتتحكم من خلالها على النظم الحاكمة في تشاد والسودان وتغازل بها النظام المصري.

– تشاد:
أمّا عن التمدد الإماراتي في تشاد المجاورة؛ فقد أبرمت اتفاقية تعاون عسكري (إماراتي- تشادي) في يونيو، 2023م وقدمت بموجبها آليات عسكرية ومعدات أمنية إلى تشاد؛ لتمكينها من تعزيز قدراتها في مجال مكافحة الإرهاب (كما يُقال) ودعم برنامج حماية الحدود. وصارت تشاد تتلقى منذئذ نظم الدفاعات الجوية الصينية الصنع من طراز صاروخ أرض جو (FK-2000). ولا يخفى بالطبع الدور الذي تقوم به تشاد من إيصال العدة والعتاد إلى قوات الدعم السريع عبر مطار أم جرس.

– إثيوبيا:

يعود اهتمام الإمارات بإثيوبيا لأمور تتعلق بأهدافها الجيوسياسية والأمنية، وبرغبتها في تأمين الموانئ المشاطئة للبحر الأحمر والمطلة على القرن الإفريقي. ولذلك فما إن صعد أبي أحمد إلى السلطة في عام 2018 حتى سارعت الإمارات إلى منحه 3 بلايين دولار تعزيزاً لبرنامجه الاقتصادي، ولمواجهة النقص المريع في العملة الأجنبية.
ولكن سرعان ما تحول ذلك الدعم إلى مجالات التجارة والمساعدات العسكرية المباشرة؛ مِن تدريب للقوات وإمداد بقطع السلاح.
وعندما كان مقاتلو جبهة تحرير تغراي الشعبية على مشارف العاصمة أديس أبابا عام 2021، وكانت حكومة أبي أحمد على حافة السقوط؛ سارعت الإمارات بتزويد حكومته بطائرات بدون طيار ليتمكن من سحق قوات التغراي، وإنقاذ نظامه من السقوط.

– السودان:

أمّا في حالة السودان، فإنّ العلاقة بين حميدتي والإمارات تعود إلى عام 2015 حينما شاركت قوات الدعم السريع في “عاصفة الحزم” التي شنّتها الإمارات والمملكة العربية السعودية على الحوثيين في اليمن.
واهتمت الإمارات بتعزيز هذه العلاقة لسبب اقتصادي وآخر سياسي؛ أمّا السبب الاقتصادي فيعود إلى سيطرة حميدتي على كميات هائلة من الذهب في إقليم دارفور، والذي يتم تهريبه عن طريق شركات حميدتي إلى الإمارات.
أمّا السبب السياسي فيرجع إلى رغبة الإمارات في استخدام القوات العسكرية التي تتبع لحميدتي في القضاء على ما تراه الإمارات “إسلاماً سياسياً” يجب قطع دابره.
وحينما اندلعت الحرب بين قوات حميدتي والقوات المسلحة السودانية انحازت الإمارات إلى قوات حميدتي وأمدته بالسلاح- تماما كما فعلت في حالة العقيد حفتر في ليبيا والرئيس أبي أحمد في إثيوبيا.

وتحت عنوان: “الإمارات تتحدث عن السلام في السودان بينما هي تغذي الحرب في السودان” كشفت صحيفة نيويورك تايمز كيف “أنّ حليفاً للولايات المتحدة يستخدم الإغاثة كغطاء للحرب”. ورغم أنّ الإمارات تنكر إمداد قوات الدعم السريع بالسلاح إلا أنّ تقرير لجنة من خبراء الأمم المتحدة (نُشِرت بعض نصوصه في صحيفة الغارديان البريطانية) يؤكد وجود انطلاق منتظم لطائرات الشحن التي ظلت تنتقل- أثناء الحرب- من الإمارات إلى تشاد، كما وثقت تلك اللجان الطرق البرية التي استخدمت لنقل الأسلحة من تشاد إلى السودان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى