حين تزهر الحقول تحت وابل الرصاص… دروس الشعوب في انتزاع الحياة من بين أنياب الحرب

عبدالعزيز يعقوب
في أزمنة الانكسار، حين يظن المرء أن الأرض قد أُقفرت من الأمل، تولد الحكايات التي تهزم الموت. ليست حكايات الأساطير، بل سِيَرُ شعوبٍ عاشت بين الركام، وحوّلت أنين الجراح إلى أناشيد عمل، واستبدلت رائحة البارود بعبير الحقول. هناك، في مواسم الدم والرماد، وُلدت الإرادة التي صنعت من المستحيل واقعًا، ومن الفقدان ميلادًا جديدًا للأوطان. ولعل السودان، بما فيه من روح لا تنكسر، قادرٌ أن يكتب فصله الخاص في هذا السفر الإنساني الطويل، إذا ما اجتمع أبناؤه على قلبٍ واحد، وأشعلوا مصابيح النهضة في عتمة الحرب.
كثيرون، حتى من أنقى الناس حباً للسودان، يرددون كلمات مثقلة باليأس، الاقتصاد في الأزمات مستحيل ان ينهض، والإنتاج في الحرب مقامرة خاسرة. لا أحد ينكر أن الحرب تحطم الأسواق وتقطع الطرقات وتستنزف الموارد، لكنها مهما امتدت، لا تستطيع أن تهزم إرادة شعب حيّ. فالتاريخ شاهدٌ على شعوب نهضت من بين الأنقاض، ودفعت عجلة الإنتاج في قلب النار، لتثبت أن الإرادة حين تقترن بالتخطيط والعمل، تصنع المعجزات.
اليوم، يقف السودان على مفترق حاسم، إما أن ننتظر حتى تهدأ المدافع، أو نبدأ الآن، في زمن المعاناة، بحماية ما بقي وبناء ما هو آتٍ. والمفتاح هو أن نمكّن الشباب من قيادة مشاريع زراعية وصناعية تعاونية، تُدار بعقل جماعي تحت إشراف البنوك وجهات التمويل وبيوت الخبرة المحلية، مع ضمان الحماية الأمنية لكل مشروع من الشباب المستنفرين ويعملوا جميعا كشركاء لا اُجراء يتقاسموا فيها العطاء و الصمود والأرباح وكتابة اسمائهم في سفر النصر والتاريخ ، بقلوبهم الحارة وأيديهم الصلبة، هم القادرون على تحويل الحقول إلى مواسم حصاد والمصانع إلى قلاع إنتاج.
حين نطالع سجل الشعوب، نجد أن
رواندا، التي احترقت في أتون المجازر عام 1994، أعادت بناء قطاعها الزراعي من الصفر، فاختارت محاصيل الشاي والقهوة ذات القيمة العالية، وأنشأت تعاونيات في القرى، وربطت المنتجين مباشرة بالأسواق المحلية والعالمية، ومولت النهوض عبر قروض صغيرة ميسرة.
وفيتنام، التي أنهكتها عقود الحرب والحصار، فتحت الأبواب للمزارعين ليمتلكوا الأرض ويبيعوا محاصيلهم بحرية، وأزالت القيود عن الأسواق، فانتقلت من بلد يكافح لسد جوعه إلى ثاني أكبر مصدر للأرز في العالم. أما كوريا الجنوبية، فقد خرجت من حربها في الخمسينيات وهي تكاد تعتمد كلياً على المساعدات الغذائية، لكنها وزعت الأراضي على المزارعين، ودعمت الأسمدة والآليات الزراعية، ثم أنشأت مناطق صناعية آمنة في قلب الركام، لتصبح لاحقاً من أقوى الاقتصادات في العالم.
وحتى في بيئة احتلال و نزاع دائم، كما في إسرائيل، ظلّت الزراعة محور الاقتصاد، عبر المزارع الجماعية، وتقنيات الريّ المحكم، ووحدات التصنيع المتنقلة، ما حفظ استمرار الإنتاج في أحلك الظروف.
إن طريق التعافي ليس نزهة قصيرة، ولا عبورًا بلا عوائق، بل مسار طويل تحفه الأشواك، لكن الشعوب التي سبقتنا تركت لنا علاماتٍ على الدرب، تحكي كيف واجهت المستحيل وانتزعت النصر من بين أنياب الخراب. وفي هذا الطريق، لا بد من مواجهة المعوقات التي تعترض مسيرة التعافي بإرادة لا تلين، ووعيٍ يتجاوز مرارة اللحظة، وعزيمة تستلهم دروس الآخرين دون أن تفقد هويتها وخصوصيتها:
1. اعتبار ابناء السودان جميعم شركاء لا اجراء، و يتم إشراكهم في تطوير وتنفيذ فكرة مشاريع الكرامة.
2. وضع خطط لانقطاع سلاسل الإمداد، ويتُعالج بإنشاء مخازن إقليمية وإعادة ترتيب مصادر التوريد من أقرب نقطة ممكنة. وانشاء وحدات صناعية صغيرة مصاحبة للمشاريع للتعليب والتعبئة.
3. نقص التمويل، ويُتجاوز عبر قروض قصيرة الأجل مرتبطة بالمواسم ودعم المغتربين في شركات مساهمة وامتيازات للمغتربين.
4. غياب الأمن، ويُعالج باتفاقيات حماية مجتمعية وتأمين مشترك بين الدولة والمجتمع المحلي.
5. هجرة الكفاءات، وتُواجه ببرامج تدريب تحويلي مكثفة و قصيرة للشباب وتوظيف المهارات السودانية في المهجر ودول الاغتراب للمساهمة في التدريب.
أيها الشباب، أنتم الورثة الحقيقيون لهذا الوطن. لا تنتظروا صمت المدافع لتزرعوا أو لتعيدوا تشغيل ماكينات المصانع. الحقل الذي يُزرع اليوم، والمصنع الذي ينبض ساعة في يوم حرب، هما جسر عبور إلى الغد. الحرب تختبر صلابة الرجال والنساء، لكنها لا تستطيع أن تمنع من قرر أن يحوّل زمن الدم إلى زمن عمل. أنتم صفحة البداية في كتاب النصر، ومن يزرع في العاصفة يحصد في الفجر.
فلتعلموا أن الفجر ليس وعداً معلقاً في السماء، بل ثمرة جهد تزرعونه أنتم اليوم، بعرق الجباه ونبض القلوب. وغداً، حين يهدأ الغبار، سيقرأ التاريخ أن جيلاً من أبناء السودان لم يرضَ أن يكون شاهداً على الانكسار، بل كان صانعاً للفجر، وحارساً للحقول، وبانياً للمصانع، حتى في زمن الحرب. وحين تُشرق شمس السلام، ستجدون أنفسكم واقفين على أرضٍ لم تنتظر السلام لتُزهر، بل أزهرت بالإصرار، وتحدّت الخراب بالحياة.



