الهندسة العكسية للفتنة: كيف يعيد خطاب التحريض الإعلامي إنتاج الصراع الإثني في السودان؟

لام دينق نوت شول
تُجمع الأدبيات الحديثة في علم الاتصال السياسي (Political Communication) أن الإعلام في المجتمعات الخارجة من الحرب يمثل أحد المحركات الأخطر في تشكيل اتجاهات الجماعات، خاصة عندما يُوظَّف في إعادة تعريف الآخر الاجتماعي، لا عبر الحوار، بل عبر خطاب الإثنية والانتماء الضيق. ما يشهده السودان منذ اندلاع الحرب الحالية ليس مجرد حرب ميدانية، بل هو حرب إدراكية متعددة المستويات، تُخاض بأدوات ناعمة، وأبرزها الإعلام المُسيس والرقمي المُمنهج.
أولاً: نموذج “التحريض بالعاطفة الجمعية” الفنان صابر الدارفوري
يتصدر المشهد الإعلامي في دارفور، الفنان صابر الدارفوري، الذي لا يُمارس الفن بوصفه وسيلة علاج جماعي لما بعد الصدمة، بل يوظف رمزيته الفنية في تهييج العاطفة الجمعية لأغراض تعبئة جماهيرية إثنية، مستخدمًا عناصر نموذج “Emotive Frame Mobilization”، وهو مصطلح صكه الباحث الأمريكي “جون لورينتزن”، ويقصد به تحويل الرموز الثقافية (الغناء، الزي، اللهجة) إلى أدوات للفرز العرقي والتعبئة العنيفة.
مثال تطبيقي:
في إحدى حفلاته المصورة، يستخدم صابر شعارات مثل “أولاد الغرب ما بنتجروا”، مع دمجها برموز مسلحة من حركة مناوي، مما يخلق تداخلًا خطيرًا بين الهوية الجهوية والسلاح، وهو ما وصفه الباحث “ستيوارت كوفمان” بـ”الانزلاق من الهوية إلى التحريض” في دراسة صدرت في Ethnopolitics Quarterly (2016).
ثانيًا: خطاب “التفكيك الجماهيري” — الناشطان بيبي وصلاح ماجلان بيش
ينتمي كل من بيبي وصلاح ماجلان إلى تيار من الناشطين الداعمين للقوة المشتركة.الذين يُنتجون محتوى رقميًا لا يحمل خصائص النقد السياسي الناضج، بل يُركّز على التحقير العرقي وإعادة إنتاج الرواية الإثنية المغلقة. تحليل محتواهم (Content Analysis) عبر أدوات تحليل الشبكات الاجتماعية (Social Network Analysis) يُظهر أن أكثر من 68٪ من منشوراتهم تحتوي على:
مفردات تفكيكية مثل: “أولاد النيل”، “أولاد االجلابة “، “أبناء المصرين الخ…..”
تحقير مباشر لمكونات إثنية كالشايقية والجعليين ونوبة الشمال وأهل الوسط الخ….
دعوات صريحة للتقسيم والانفصال
هذه الأنماط تتطابق مع نموذج “Speech Spiral Theory” الذي طوّره “إليوت شارب”، والذي يُبيّن كيف تتطور الخطابات الهامشية إلى خطاب رئيسي عندما يُعاد تضخيمها بدون مقاومة معرفية أو قانونية.
ثالثًا: مشروع “البحر والنهر” وخرائط ما بعد الدولة — عبدالرحمن عمسيب
أما أخطر حلقات هذا المشروع الانقسامي فهو ما يسمى بـمشروع البحر والنهر، الذي يتبناه عبدالرحمن عمسيب، في منصات مدعومة وأخرى مدفوعة التمويل الخليجي. هذا المشروع يقوم على إعادة رسم الجغرافيا السياسية للسودان، عبر مقاربة Geopolitical Reframing، تُقصي دارفور وكردفان، وتُكرّس “وطن النهر” كصيغة متقدمة من السودان النخبوي النيلي.
مشروع البحر والنهر يشبه إلى حدٍّ بعيد خريطة “Rand Corporation” التي اقترحت تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق إثنية–مذهبية (شيعية، سنية، كردية). وفق تحليل نشر في Journal of Strategic Studies (2021)، فإن مشاريع “ما بعد الدولة” التي تصدر من مراكز التفكير المرتبطة بالخليج، غالباً ما تُدار بواجهة إعلامية ناعمة ومُقنعة، لكنها تُبطن تصورات تجزئة شعوب ما بعد الاستعمار لصالح نفوذ اقتصادي–أمني خارجي.
رابعًا: الأثر الاجتماعي .كيف يُخلق العدو الداخلي؟
وفقاً لنموذج “Constructed Enemy Theory” الذي طوّره المفكر السياسي “ماركوس تيرنر”، فإن الإعلام الموجّه في المجتمعات الهشة يعمل على “خلق العدو الداخلي” من خلال أربع مراحل:
1. تصنيف الآخر كخطر وجودي (Existential Threat)
2. نزع الإنسانية عن الخصم (Dehumanization)
3. شرعنة العنف الموجه ضده (Violent Legitimacy)
4. تحويل الصراع من سياسي إلى وجودي (Existentialization)
وبتحليل ما يصدر عن أمثال عمسيب وصابر وبيبي الخ….، نجد أنهم يُمررون هذه المراحل تدريجياً، في ظل ضعف الإعلام المضاد، وانعدام الرقابة القانونية على المحتوى الرقمي.
كيف نواجه الخطر؟
ما يحدث الآن ليس مجرد “تحريض فردي”، بل هو هندسة منهجية لإعادة إنتاج الحرب الأهلية على أساس إثني محدث. يتلاقى فيه:
الرمز الثقافي المشوّه (الفنان صابر)
النشاط الرقمي الفوضوي (بيبي وماجلان الخ…)
المُنظّر الانفصالي ذو الواجهة المخابراتية(عمسيب)
لحظة الوعي تفرض علينا مساءلة كل من يستخدم المنصات الإعلامية لتمزيق الوجدان الوطني، ومن يتاجر بعواطف الناس، ومن يُعيد رسم الوطن خارج حدوده لصالح استراتيجيات تخدم الخارج لا الداخل.
دعوة للنخبة السودانية:
إن معركة السودان القادمة لن تُحسم في الميدان فقط، بل في مجال الوعي. والنخب الفكرية، الإعلامية، والقانونية مطالبة اليوم بتطوير “بروتوكول وطني لمكافحة التحريض الإعلامي”، على غرار ما قامت به رواندا بعد الإبادة (1994) حين حظرت 42 محطة بث شاركت في التحريض العرقي.



