رأي

يا لجرحها ..

 

بابكر إسماعيل

سنُ النار .. أي تقابة القرآن تلك هي محبوبتنا الجميلة .. نشأت مدينتنا وترعرعت في حضن القرآن الكريم … فقد قامت سلطنة الفونج بعيد سقوط الأندلس في أوربا (١٤٩٢م) فاتخذوا سنّار عاصمة لهم في تلك المناحي من الكرة الأرضية وهي نفس البقعة التي شهدت مولد حضارة الإنسان الأولى فعلى بعد ثلاثين كيلومتر جنوبها وجدوا قبراً لإنسان سنجة الذي عاش قبل مائة وستين ألف عام ..
هنيئاً لسنارنا بعراقتها .. فقد كانت لثلاثمائة عام عاصمة أرض السمر (١٥٠٤م – ١٨٢١م) .. إلى قبيل أن يدمرها المحتلون الغاصبون من دولة الخديوي في شمالنا ..
وفي عمق الصحراء الجرداء القحط كانت هنالك قبيلة ياس.. تلهث من العطش في صحراء جزيرة العرب فعثروا على بئر في منطقة أبي ظبي الحالية ففرحوا وهللوا وأقاموا حول البئر من بعد عنت وشقاء قضوه بحثاً عن قطرات من الماء.. وربما كانوا هم وجيرانهم من بني تميم من أعراب الخليج الفارسي من عناهم الاخطل في شعره:

قومٌ إذا استنبَحَ الأضيافُ كلبهُمُ
قالوا لأُمِّهُمُ: بولي على النّارِ

مدينة سنار الهادئة الوادعة الرابضة على الضفة الغربية من النيل الأزرق المتدفق بالمياه والنابض بالحياة ليس مثل دبيرة وأخواتها غبيرة ومنفوحة ..
سنّار السلطنة هي أساس سودان اليوم، وساهمت في نشر الإسلام واللغة العربية، وازدهر التدين والتصوف في العصر السناري كما جاء في طبقات ود ضيف الله وانتشرت خلاوي القرآن وكتاتيبه وقامت حضارة باتعة علي شاطيء النيل الأزرق ودولة مشيدة البنيان عظيمة الأركان بسلاطينها وأمرائها وشونتها وكتاب شونتها ودواوينها ..
وبينما كانت سنار في قمة مجدها كانت جداتهم هنالك على شواطيء الخليج الفارسي وصحراء الجزيرة العربية .. ما زلن يبلن على النار عند كلّ نباح في الدجى ..

كتب الأمير محمد ود عدلان وكان فارساً مهاباً – وكأنّي به اللواء الشهيد أيوب الذي جاء من سنّار ليفكّ حصار المدرعات في جنوب الخرطوم – كتب ود عدلان إلى الغازي إسماعيل باشا قبل وصوله إلى سنّار:
“لا يغرنّكَ انتصارك على الجعليين والشايقية .. فنحن الملوك وهم الرعية ..أما بلغك أنّ سنّار محروسة محمية بصوارم قواطع هندية وخيولٍ جردٍ أدهمية ورجال صابرين على القتال بكرة وعشية” .. وكان معه عشرة ألف مقاتل وسبعة مدافع من طراز القديم نمرة ٤ ونمرة ٦ أتي بها المماليك الذين فروا بها جنوباً بعد استيلاء محمد على باشا الألباني على السلطة في مصر ولكن المنية عاجلت الأمير محمد عدلان فقد هجم عليه رجال حسن ود رجب فقتلوه ثأراً لمحمد ود رجب سابع وزراء الهمج الذي قتله ود عدلان .. وكأنّي به عملاً استخبارياً يشبه ما قامت به حاضنة الجنجويد في حامية نيالا وسنجة وكثير غيرها ..
لأنه لو كان ود عدلان حيّاً عند وصول جيش الخديوي لربما تغيّر تاريخ السودان ..

والآن سنّار تئن تحت الحصار منذ ما يزيد عن الشهرين .. وهو حصار من ثلاثة اتجاهات..
عدا من اتجاه الشرق عبوراً فوق جسر الخزان عبر طريق ضيق بعرض حوالي خمسة أمتار وطول ثلاث كيلومترات ويعلو ٤٠ متراً عن سطح الأرض .. كأنه صراط يوم الدين المستقيم ..

والسناريون صامدون .. مصنددون .. لا يرغبون في مغادرة مدينتهم العريقة وعازمون على البقاء في عاصمة السودان التاريخية فلئن أفرغت الخرطوم من أهلها .. وانتقلت دواوين الدولة إلى بورتسودان فسنار شامخة صامدة بأهلها ولسان حالها يقول:

أنا سنّار أنا السودان ..
لسان حالك أريتك تدري بحالي
أنا القدّرت أحوالك وحبك بدري أوحى لي
أقوم بأعظم الأدوار وأكون ساحة للثوار
وأبقى القلعة للأحرار وأمثل عزّة السودان

وصمود السناريين وراءه رجال سمر كأنهم هم من وصفهم زهير بن أبي سلمى:

زَالوا فَمازالَ أَنكاسٌ وَلا كُشُفٌ
عِندَ اللِقاءِ وَلا ميلٌ مَعازيلُ
شُمُّ العَرانينِ أَبطالٌ لَبوسُهُمُ
مِن نَسجِ داوُدَ في الهَيجا سَرابيلُ
بيضٌ سَوابِغُ قَد شُكَّت لَها حَلَقٌ
كَأَنَّها حَلَقُ القَفعاءِ مَجدولُ يَمشون مَشيَ الجِمالِ الزُهرِ يَعصِمُهُم
ضَربٌ إِذا عَرَّدَ السودُ التَنابيلُ
لا يَفرَحونَ إِذا نالَت رِماحُهُمُ
قَوماً وَلَيسوا مَجازيعاً إِذا نيلوا
لا يَقَعُ الطَعنُ إِلّا في نُحورِهِمُ
ما إِن لَهُم عَن حِياضِ المَوتِ تَهليلُ

وأزجي التحايا لقروب سنّار أرض التاريخ ومشرفيه ولحسبو السناري الذي ينقل أحداث الميدان لحظة بلحظة ويطمئن الناس عندما تبلغ القلوب الحناجر .. ولدكتور عزّ العرب الذي ما فارق مستشفى سنار وهو ابن بجدتها ونسج تربتها … سناري الهوى والهوية .. وبجمعية رعاية مرضى الكلي وقبطانها محمد ضياء والذين قاموا بتشغيل الموّلد مما مكّن من استمرار خدمة غسيل الكلى بطاقم السسترات والتحية لنصر الدين التيجاني المدير الإداري لمستشفى الكلى .. ولمهندسي التوليد الذين استطاعوا تركيب التوربين الرئيسي فعاد التيار والحياة لأقدم وحدة توليد كهربائي مائي في السودان .. فأضاءت جنبات سنّار ..
بسقط اللوى ..
ومنعرجات فنقوقة
وتبسّمت بدور قلعتها وجوهرها
واستقام بنيان سنّار كالجسد الواحد ..
وانداح حيّ تكتوك وفريق البحر ..
وفاشرنا الصغرى السنارية وفريق التعايشة والمزاد ومربعاتها ( ٢١ و٢٢ و٣٨) ودرجتها وجامعتها والمَلَجَة
وحدثني من أثق فيه أنّ مزارعي ريف سنّار الغربي في مناطق اليعقوباب لم يستطعوا الزراعة هذا العام فهيأ الله لهم خريفاً أنبت من بقايا زرع العام الماضي ذرة وسمسماً وقمحاً وتمنّ فسبحان المنّان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى