يا أبناء دارفور ، إلام الخُلف بينكمو إلاما ؟! (2 -3)

هاشم الإمام محي الدين

ذكرت في الجزء الأول من هذا المقال أن الناشطين السياسيين من أبناء دارفورالذين ندبوا أنفسهم للدفاع عن أهليهم مما لحق بهم من ظلم ( كما يزعمون ) على أيدي النخبة الحاكمة من أبناء الشمال ، قد تفتقت أذهانهم عن مصطلح سياسي جديد ، يعبر عن استئثار الجلابة بحكم السودان في الحقبة التي تلت الحكم الثنائي ، ولا يزالون ، وهو مصطلح ( دولة 56 ) ، هذه الدولة التي ينسبون إلى قادتها كل ما حل بدارفور من نكبات ، وما حاق بأهلها من بلاء ، و يسكتون عن تاريخ ما قبلها كأن تاريخ دارفور  بدأ بعد استقلال السودان! وكأنها قبل عام 56 كانت قرية آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فأذاقها هؤلاء الجلابة لباس الخوف والجوع ! وكأنها كانت مروجاً خضراء فأنزل عليها هؤلاء الأشقياء أولاد البحر حسباناً من نار فاحترقت ! وكأن أهل دارفور من قبلُ كانوا يأكلون المن والسلوى ، ويشربون من ماء نمير ، فمات على أيدي هؤلاء الجلابة الزرع ، وجف الضرع ، وغار الماء ! أولم تكن دارفور مملكة مستقلة يحكمها أهلها طوال ثلاثة قرون ؟ فماذا أنجزوا ؟ سواء على صعيد التنمية والعمران أم على صعيد تطوير نظام  الحكم أم على صعيد العمل على تمدن الإنسان ورقيه وحفظ حقوقه ؟
لقد ظلت سهول دارفور ومراعيها طوال القرون الثلاثة التي حكمها أهلها أرضاً بكراً كيوم خلقها الله لم تمسها يد بإصلاح ، وظل الإنسان فيها يجوب الأرض يبحث عن الماء والكلأ ، لم يصب شيئاً من النعماء والتمدن و التعليم ، ولا تعلّم من الحِرف و الصنائع شيئاً ! ولولا فضل الله ثم فضل الصالحين من سلاطين مملكتهم  لبقوا على شركهم إلى يومنا هذا ، ولا ألوم هؤلاء السلاطين على شيء لم يكن تحقيقه ممكناً في زمانهم ، ولكن ألوم هؤلاء الذين يردُّون كل تقصير في التنمية أو الخدمات إلى التآمر ، والاستعلاء العرقي، وسوء القصد.
لا أريد أن أخوض في سياسات سلاطين دارفور ، ونظام الحكم في مملكتهم ، فنظام الحكم كان كغيره من أنظمة الحكم التي كانت سائدة في عصرهم ، نطام ملكي وراثي طاعة السطان فيه واجبة . ورغم استبداد بعض السلاطين وتقصيرهم في حق رعاياهم ، إلا أن الخير الكثير الذي هو فيهم يجبُّ ما اقترفوه من آثام إذ نشروا الإسلام ،  ومكّنوا له في أرض دارفور ، على قدر إمكاناتهم وإمكانات عصرهم المتاحة ، فوصل إلى أطرافها كافة،  فلا  تكاد تجد فيها غير مسلم ، ومن سلاطينها العظام السلطان علي دينار الذي كان يكسو الكعبة كل عام طوال مدة حكمه ، ولئن ذكرت بعض هناتهم فلأنبه هؤلاء اللايفايتية العنصريين إلى أن الحكم لا بد له من شوكة ، والظلم واقع فيه على الجملة لا محالة ، وإن كان ظلم ذوي القربى أشد مرارة ، كذلك ربما حرّف الرواة التاريخ ، وما  آفة الأخبار إلا رواتها ، أو كتبوه مكرهين على حسب هوى حكامهم ، فلنتحرّ صحة الرواية ما استطعنا .
ومن الحقب المهمة في تاريخ السودان  حقبة المهدية التي سفك فيها المهدي الدماء في الخرطوم ، واستباحها بعد فتحها ثلاثة أيام ، وسبى الحرائر من نسائها ، وهو الموصوف بقولهم :
وكم صلى وكم صام وكم ختم القرآن في سنة الوتر!
خلف المهدي على حكم السودان رجل من دارفور هو عبدالله التعايشي ، فأذاق رعيته بمن فيهم أهل دارفورأنفسهم لباس الجوع والخوف ، فالظلم والاستبداد وحب الاستئثار بالسلطة ليست نزعة عرقية تمارسها قبيلة دون أخرى ، ولا محلها إقليم جغرافي دون الآخر ، بل هي صفات مذمومة تجدها في بعض الأفراد ، حكاماً و رعية ، على اختلاف أعراقهم وسلالاتهم وأينما تفرقوا في الأرض ما بلغ الليل والنهار.
ولا نلتمس للمهدي أو الخليفة من بعده العذر  في سفك الدماء واستباحة  الأعراض ،  وإن تسربلا بسربال  الجهاد ،  ونزيا بزي الدين ،  فالرجال تعرف بالحق ، ولا يعرف الحق بالرجال ، والذنب يُحاسب على ارتكابه الشريف والوضيع .
بعد أن خلف عبد الله التعايشي المهدي في حكم الدولة المهدية بدأت صفحة من صفحات العسف والظلم والتنكيل والتشريدوالانتهاك للحرمات وسبي الحرائر من النساء باسم فكرة المهدية التي أحالت البلاد إلى قطعة من الجحيم .
كتب الخليفة إلي علماء السودان كافة ومشائخه وزعماء قبائله أن يحضروا لتجديد البيعة والتبرك بزيارة قبر المهدي ، وقد نكل بالممتنعين مثل صالح الكباشي وأهله الكبابيش ومادبو شيخ الرزيقات وعوض الكريم أبو سن الذي كان ينكر فكرة المهدية ابتداءً فسيق إلى  الخرطوم في أغلاله .
وبعد سقوط المهدية  وهزيمة الأنصار في معركة كرري التي  ألهت أبناء شهدائها عن كل مكرمة ، دخل البريطانيون السودان وحكموه من 1898 إلى  1956 م وأقاموا فيه قليلاً من المشاريع التنموية  والعمران كان معظمها في منطقة شمل السودان ووسطه ولم يكن ذلك حباً في أهل هذه المنطقة فما هم أبناء عمومتهم فينحازون إليهم  ، ولكن حاجتهم إلى القطن طويل التيلة وتصديره إلى مصانع النسيج عندهم دفعتهم إلى اختيار الجزيرة ذات الأراضي الزراعية الواسعة والماء المتدفق ، وإلى مد السكة حديد شرقاً إلى البحر الأحمر لوجود الميناء ، ثم مدوها إلى أقصى الشمال لأهمية مصر لهم فقد دخلوا السودان من بوابتها ، وهي شريكتهم في إدارته.

Exit mobile version