رأي

وهم الدولة الموازية: كيف سقط مشروع آل دقلو في السودان

عبدالناصر سلم حامد

في الفاشر، حيث الأطفال يتجمعون حول صهاريج ماء نادرة، والنساء يبحثن في الأسواق الخالية عن حفنة ذرة، يبدو المشهد أكثر فصاحة من أي خطاب سياسي. هنا يتجلى أن المشروع الذي بناه آل دقلو على الذهب والبارود لم يكن سوى وهم قصير العمر. خرج الدعم السريع من رحم الجنجويد في دارفور، وتحول خلال سنوات قليلة إلى قوة موازية للجيش، تمتلك المال والسلاح وشبكة من العلاقات الإقليمية. لكن الحقيقة أن هذه القوة، التي بدت في لحظة ما كأنها تتجاوز الدولة نفسها، كانت منذ البداية مشروعًا هشًا يفتقر إلى الجذور.

تأسس الدعم السريع رسميًا عام 2013 كأداة بيد نظام البشير لإخماد التمرد في دارفور وموازنة الجيش. غير أن محمد حمدان دقلو (حميدتي) تجاوز الدور الأمني المحدود بسرعة، فسيطر على مناجم الذهب، وأدار شبكات تهريب تمتد عبر تشاد وليبيا وصولًا إلى أسواق الخليج. كان يحلم بدولة تبنى على موارد الظل، لكن سرعان ما تبيّن أن الذهب وحده لا يبني شرعية.

تقول تقارير غلوبال ويتنس (2020) إن الدعم السريع سيطر على نحو 40% من صادرات الذهب السوداني، معظمها عبر قنوات غير رسمية. هذه الثروة وفرت تمويلاً هائلًا، لكنها لم تتحول إلى مدارس أو مستشفيات أو بنى تحتية. لم تكن سوى اقتصاد حرب يشبه “اقتصاد الماس الدموي” في سيراليون وليبيريا: ثروة سريعة، لكنها بلا أفق. ومن الطبيعي أن ينهار هذا الاقتصاد عند أول ضغط خارجي.

سياسيًا، حاول حميدتي أن يقدّم نفسه شريكًا في المرحلة الانتقالية، وأن يتحدث عن الديمقراطية والانتخابات بلغة رجل الدولة. بيد أن الحقيقة كانت أوضح من كل خطاب؛ فقد ظل في نظر القوى المدنية امتدادًا للجنجويد، عاجزًا عن التخلص من صورته الأولى. اعتمد على تحالفات قصيرة العمر مع بعض الفاعلين السياسيين، لكنها لم تصمد أمام جرائم الحرب التي ارتكبتها قواته في الخرطوم ودارفور.

ومع فشله العسكري في الخرطوم والجزيرة وسنار، لجأ إلى مشروع “الحكومة الموازية”. وربما كان الأهم هنا أن الاسم نفسه حمل تناقضًا؛ إذ ادعى تمثيل كل السودان، بينما لم يتجاوز في الواقع محاولة يائسة لخلق غطاء سياسي لمليشيا محاصرة. لا غرابة إذن أن هذه الحكومة لم تنل اعترافًا دوليًا، ولا حتى احترامًا من الحركات المسلحة التي فضّلت الابتعاد عن المشروع.

من يقرأ المشهد بعين الواقع يدرك أن أهم أسباب الفشل كان الشخصنة. فالدعم السريع لم يتحول إلى مؤسسة، بل ظل مرتبطًا باسم حميدتي وأسرته. الولاء كان لشخص القائد، لا لعقد وطني جامع. الروابط التي جمعت المقاتلين كانت في معظمها مصالح ظرفية أو مكاسب قصيرة الأجل. ومع تصاعد التكلفة البشرية وتزايد الانتهاكات، أصبح هذا الولاء عبئًا لا شرفًا. وهذا ما جعل المشروع يتداعى من الداخل حتى قبل أن يسقط من الخارج.

اندلاع الحرب في أبريل 2023 كان لحظة الحقيقة. في الخرطوم، ورغم عنصر المفاجأة الذي منحه بعض النجاحات الأولية، فشل الدعم السريع في إدارة العاصمة. الأحياء التي سيطر عليها تحولت إلى مساحات من الفوضى والنهب، وصار المدنيون يحتمون بأبوابهم أكثر من أي وقت مضى. وفي دارفور، سيطر على مدن كبرى مثل الجنينة وزالنجي ونيالا، لكنه عجز عن إخضاع الفاشر، التي تحولت إلى “ستالينغراد” مشروعه. الفاشر، المدينة المحاصرة منذ شهور، أثبتت أن الصمود الشعبي والعسكري قادر على كسر وهم القوة.

الأمم المتحدة قدّرت عدد المحاصرين في الفاشر بأكثر من 800 ألف مدني. وفي الجنينة، قُتل ما لا يقل عن عشرة آلاف شخص وفق تقارير محلية ودولية. أما النزوح فقد تجاوز 2.8 مليون إنسان من دارفور وحدها. وقالت روزاليند مارسدن، المقررة الخاصة السابقة للأمم المتحدة في السودان: “الحصار المفروض على الفاشر يرقى إلى استخدام التجويع كسلاح، وهو جريمة حرب بموجب القانون الدولي”. أليس من المفارقة أن يتحول من ادعى حماية المدنيين إلى من حاصرهم بالجوع؟

الانعكاسات الاجتماعية كانت عميقة. ففي الخرطوم، تركت مشاهد الاغتصاب والنهب جروحًا لن تُشفى سريعًا. وفي دارفور، صار اسم الدعم السريع مرادفًا للدمار بدلًا من الحماية. ومع غياب أي مكسب تنموي، بات حتى من قاتلوا معه ينظرون إلى المشروع كعبء. دارفور التي وُعدت بالتنمية والإعمار تحولت إلى ساحة حرب وحصار. وهكذا، صار الانتماء إلى المشروع عبئًا اجتماعيًا ونفسيًا على حامليه.

على المستوى الإقليمي، اعتمد الدعم السريع على شبكة مصالح متشعبة: تعاون مع قوات حفتر في ليبيا، واستقدم مرتزقة من دول الساحل، وباع الذهب في أسواق الخليج. بل وحاول أن يقدم نفسه لأوروبا كحارس للحدود في ملف الهجرة غير النظامية. لكن هذه التحالفات كانت مؤقتة، قائمة على تبادل المصالح لا على شراكات راسخة. التوتر بين الإمارات ومصر كان أوضح تجلٍ لذلك: الأولى تعاملت معه عبر الذهب، بينما الثانية دعمت الجيش باعتباره المؤسسة الوطنية الوحيدة. أما أوروبا، فقد أوقفت أي تواصل سياسي معه بعد انتشار تقارير الانتهاكات.

كما يذكر عالم الاجتماع تشارلز تيلي، فإن المليشيات التي تنمو على هامش الدولة قد تفرض سيطرة وقتية، لكنها تفشل في بناء مؤسسات شرعية. تجربة الدعم السريع لا تختلف: قوة بلا دولة، اقتصاد بلا مؤسسات، وتحالفات بلا جذور. ومن هنا كان الفشل حتميًا.

اليوم، وبعد انهيار المشروع، يترك الدعم السريع وراءه فراغًا خطيرًا: في دارفور حيث سيطر على مدن كبرى لكنه عجز عن الفاشر، وفي الخرطوم حيث كشفت الحرب هشاشة الدولة المركزية. وعلى المستوى الإقليمي، أثبت سقوطه أن النفوذ الخارجي الذي اعتمد عليه كان ظرفيًا لا استراتيجيًا. لقد أراد آل دقلو دولة بحجم طموحاتهم، فانتهوا بلا دولة ولا طموح.

سقوط الدعم السريع ليس مجرد نهاية لمليشيا، بل نهاية لوهم الدولة الموازية في السودان. لكنه أيضًا يطرح سؤالًا أكبر: هل تستطيع الدولة المركزية أن تعيد بناء نفسها على أسس جديدة، أم أن الفراغ سيظل مفتوحًا لمغامرات أخرى؟ المؤكد أن السودان لن ينهض على اقتصاد ظل أو على مرتزقة عابرين للحدود، بل على عقد اجتماعي جديد يعيد الاعتبار للمواطنة والعدالة. وما لم يتحقق ذلك، ستظل البلاد تدور في حلقة من الأوهام، كل واحد منها أقصر عمرًا من الذي سبقه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى