د. محمد يوسف قباني
تزدحم صباحات مدينة أمدرمان العتيقة هذه الأيام بالمشاغل والصفوف والإجراءات، ويغدو المرور (شرطة المرور) على المؤسسات الخدمية جزءاً من تفاصيل يومية يختلط فيها التعب بالرجاء. غير أنّ بعض اللحظات، مهما بدت عابرة، تحمل من المعاني ما يستحق أن يُروى، لأنها تعكس حقيقة هذا الشعب وأصالته التي لا تغيّرها الظروف ولا تهزمها الأزمات. ولعل ما شهدته صباح اليوم في مركز ترخيص الكرامة كان مثالاً خالصاً لهذه القيم السودانية الرفيعة التي تبعث في النفس الطمأنينة والفخر.
المشهد كما كان بين ازدحام المراجعين وصمت الانتظار، كان كل شيء يمضي بإيقاع يوم عادي إلى أن مرّ العقيد متوكل عبدالله أحمد — من شرطة المرور بمركز ترخيص الكرامة —عبر صالة الانتظار. لم يكن في المشهد ما يلفت الانتباه حتى وقعت عيناه على رجلٍ مهيب، جالسٍ في هدوء ووقار: سعادة المساعد بالجيش السوداني، العم الجليل أحمد عبدالمجيد، أحد رجال الكلية الحربية المعروفين بسنّهم وخدمتهم الطويلة للوطن والمواطن. وهنا تغيّر كل شيء. اقترب العقيد متوكل بخطى تشير إلى معرفة ومودة واحترام، ثم وقف أمامه وألقى عليه التحية بتحيةٍ سودانية خالصة فيها حرارة البشر وصدق التقدير. لم يكتفِ بذلك، بل مدّ يده يأخذ بيد العم أحمد عبدالمجيد، في إكرامٍ يليق بالسنّ والمكانة والمسيرة الطويلة في خدمة السودان. كان المشهد يعبّر عن معنى الانضباط العسكري حين يكون ممزوجاً بالتواضع والأصالة، وعن روح الشرطي الذي يرى مهمته خدمة الناس قبل أي شيء آخر.
ثم مضى العقيد متوكل في تقديم كل ما يستطيع من مساعدة، دون ضجيج أو استعراض، فقط احترام، وإنسانية، وأخلاق محمدية تُشبه معدن هذا الشعب.
دلالة المشهد وقيمته هزتني. ما رأيته اليوم لم يكن موقفاً بروتوكولياً، ولا مجاملة عابرة، بل كان درساً في الأخلاق المحمدية الإنسانية التى علمنا إيها سيد البشر محمد الرسول الخاتم للإسلام والزعيم الجامع للمسلمين ﷺ – كتفاعلات مجتمعية شامخة، والتي تأسس عليها المجتمع السوداني:
احترام الكبار وتقديمهم.
تقدير من خدموا الوطن في مختلف مؤسساته.
التواضع من صاحب المنصب، قبل انتظار التقدير من الآخرين.
روح الأخوة بين الشرطة والجيش، بوصفهما جناحين لحماية البلاد.
الإحساس بالناس، والمبادرة في تقديم العون دون طلب.
إنها الأخلاق المحمدية – صلى الله على سيدنا محمد باهي الجمال جليل الكمال عظيم الخصال – والتي يتوارثها السودانيون جيلاً بعد جيل؛ أخلاق الكلمة الطيبة، والوقار، والاحترام، والإنصاف. في زمن كثرت فيه المنغصات، مثل هذه المواقف تذكّرنا بأن الخير لا يزال بيننا، وأن السودان
مهما عصفت به الأزمات يبقى قائماً على قيم لا تتزعزع.
غادرت مركز ترخيص الكرامة وأنا أحمل في داخلي امتناناً لمشهد بسيط في ظاهره، عميق في معناه. لحظةٌ واحدة كانت كافية لتعيد للروح يقيناً بأن السودان ما زال بخير، ما دام فيه أمثال العقيد متوكل عبدالله أحمد وأمثال العم أحمد عبدالمجيد؛ رجالٌ يجسدون الأخلاق قبل الألقاب، والإنسانية قبل الإجراءات. إنها محطة إيجابية مهمة يجب الوقوف عندها، وتدوينها، والثناء عليها، لأنها تمثل الوجه الحقيقي للسودان الذي نحبّه ونرتجيه: سودان الأخلاق، والاحترام، والشهامة، والوفاء.
تعجبني هذه الأخلاق والنخوة والشهامة السودانية المعهودة فينا والتي تربينا عليها، وتزداد جمالا خصوصا حينما تُترجَم تعاملاتنا وفقا لحق الزعيم الجامع على إنسان امته – صلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد الرسول الخاتم للإسلام والزعيم الجامع للمسلمين ﷺ..
