وقفة على شاطئ النهر بين وردي ووردي: (كتابة على هامش مرور 12 عام على رحيل فنان أفريقيا الأول)

عبداللطيف مجتبى 

 

تغنى وردي بأغنية مشتاق ليك كتير والله  لشاعرها محجوب شريف بلحنها الموقع في وجدان الناس لاحقاً في أغنية (يلا و تعال يلا) تلك الأغنية الشهيرة لإسحق الحلنقي

أثارت هذه التجربة في ذهني الكثير من الأسئلة أهمها:

لماذا فعل الفنان وردي ذلك وهو المعروف بأنه نهر الألحان المتدفق في عذوبة دائمة ودون توقف ؟

وما الرسالة التي أراد أن يوصلها من خلال ذلك.؟

وهل انحاز وردي لمشروعه الفني بدلاً عن السياسي عندما غير  كلمات لحن نشيد أو  أغنية مشتاق ليك كتير والله ونصها المحمل  بخطاب سياسي واضح المعالم أحمر اللون كان عنواناً رئيساً بين يدي اندلاع ثورة مايو، مستبدلاً إياها بكلمات رمزية مختلفة وهي يلا وتعال يلا نهاجر في بلاد الله؟

 

قبل الإجابة على هذه الأسئلة يجب أن نؤكد  على أن وردي في تجربته الطويلة كان ذكياً فنياً وله مواقف في ذلك يشهد عليها معاصروه. وليس أدل على ذلك من أنه رأى أن عليه أن يقوم بإعادة تسجيل اللحن في كلمات جديدة ليعلن أنه قد تخلص من تبعات السياسة الصارخة وثقلها ومسؤولياتها والتزاماتها ومحدوديتها، معلناً تحرره من ربقة الآيدولوجيا التي تعتبر أن الفن وسيلة وليس غاية في حد ذاته ويؤكد أن الفنان يعشق الحرية والانعتاق، لم يقل ذلك صراحة ولكن لدى تقديمه كلمات الحلنقي لذات اللحن لأول مرة قال إنه طلب نص جديد يخفف من غلواء النص المعارض للنظام وربما يكون حرصاً منه على مشروعه الفني واستمرارية العطاء الجمالي خير له من ملاواة السياسيين ليترك الخبز السياسي لناسه ويخبز ما تم عجنه من مشروعه الفني الذي صار صرحاً بيناً وهذا في ظني جوهر الإجابة على السؤال سابق الذكر لعل في النداء إلى الهجرة إلى أرض الله الواسعة إشارة لضرورة الانعتاق. وفي نفس الوقت لا يفقد لحناً جميلاً وجد فيما بعد حظوة كبيرة.

ومن هذا المدخل يلحظ المتابع أن مشروع وردي الفني على طول أمده الذي ناهز الستين عاماً أن صاحبه ظل فطناً لمثل هذه الشراك فقد سجلت مسيرته الفنية انتقالات على مستوى الفن نفسه فمن خلال أعماله التي تلت سجنه في أوائل السبعينيات من قبل نظام مايو نجد أنه قد خرج  بتجربة ذات ملامح مختلفة لوح فيها بأعماله الجديدة شكلاً ومضموناً. كان قد غادر فيها التزاماً وقيداً فنياً آخر، معلناً انتهاء مرحلة تلك الثنائية  الطويلة الأمد بينه وبين الشاعر إسماعيل حسن فجاءت جميلة محجوب شريف ومستحيلته الخالدة ومن غير ميعاد وأرحل للتيجاني سعيد وبناديها للدوش وكذلك الود التي تمثل إحدى ذرى تجربته الفنية جمالياً، فكان موسماً جديداً في خارطة الفن السوداني والعربي والأفريقي بشكل عام.

وهو كذلك بدخوله في هذه المرحلة الجديدة لم يغادر فقط مرحلة ذات ملامح سياسية فقط بل غادر كذلك مرحلة فنية كاملة ظلت تتلبس تجربته ردحاً من الزمن رغم تلك الأعمال الخالدة ذات الملامح الفنية والموضوعية البارزة التي تقف شاهداً لها أعمال مثل لو بهمسة وأسفاي  والريلة وغيرها من قصائد إسماعيل حسن التي تغنى بها فنان أفريقيا الأول إلا أنه لم يركن لها فهرب مرة أخرى لتلك العوالم الشابة الندية النابعة من صوت طفلة وسط اللمة منسية ولا أعتقد أن كل هذا الزخم الجديد جاء من غير ميعاد.

وعوداً لذي بدء يمكن القول بأن مثل هذه العمليات الفنية تعتبر دروساً عميقة للأجيال وأنها تقول إن الفن والفنان ليس عليه أن يكون منحازاً لفئة دون أخرى ما دامت رسالته إنسانية شاملة صادقة  فاستبدال نص الأغنية (مشتاق ليك كتير والله) لشاعر الشعب  بكلمات (يلا وتعال يلا نهاجر في بلاد الله) لرئيس جمهورية الحب، كان إعلاناً سافراً لكونه فناناً وليس سياسياً، وأنه فنان مجدد ومتجدد وأن الفن رسالة خالدة خلود الجمال في الناس. ولم يتناسى في خضم هذا الجمال مشروعه الوطني، الذي مثل فيه صوتاً للشعب في مواقفه ضد الأنظمة، حيث قدم عبره أعمالاً خالدة مثل الأكتوبريات وعرس السودان للفيتوري وحدق العيون ليك يا وطن لمحمد عبد القادر ونلتقيك اليوم ياوطني لمبارك بشير ووطناً ال بي إسمك كتبنا ورطنا لمحجوب شريف وغيرها من الأعمال الوطنية الخالدة التي بثت روح حب الوطن وإذكاء روح الوطنية وتعزيز القيم والمآثر التي يتسم بها شعب السودان. وبلا شك لا  تنفضل أعماله الوطنية هذه عن مشروعه الإبداعي الجمالي في مسيرته الفنية الطويلة.

Exit mobile version