وفي أم درمان ملحمة منسية
الطيب قسم السيد
تسعة أيام حسوماً عاشتها أم درمان.. المدينة السودان.. تاج العزة المصغر، ملتقى السحنات، مزيج الثقافات، وتعدد الأحياء والحارات، التي أمها الوافدون – مثل حالتي – من الحلفاية وشمبات، ومن سنار والجزيرة وغيرها من الجهات، من ربوع الوطن كافة.. فاستقبلتهم بالراسخ مما لأهلها من قيم وما ورثوه من صفات. فتجملت بهم، وازدان سمتها مبنى ومعنى خصالا، وسمات.
في فجر ذلك الأثنين المضيء ، خرجت أحياؤها برمتها عن شبكة الإمداد الكهربائي، بفعل عدو إرهابي ظالم اعتدت مسيراته، على محطة مروي التحويلية.. فساد الظلام.. وتعسر الحصول على مياه الشرب.. وخف الناس وصاروا يتدافعون طوال أيام (الظلام) تلك، إلى حيث تحل بعض التناكر التي دبرها الجيش وتلك التي وفرتها مشكورة سلطات ولاية الخرطوم. لتسد ما استطاعت، من فجوات المياه بسبب خروج جميع الأحياء والحارات، عن تراتيبية الإمداد اليومي للكهرباء.
والمياه كانت تضخها صنابير بعض بيوت المقتدرين المزودة بالمولدات والمساجد والمرافق.كما إن معظم المساجد ذات الإنارة البديلة،كانت تسمح بسحب ما تيسر للناس من مياه صهاريجها، وتأذن كذلك لمرتاديها من المصلين بشحن هواتفهم من كهرباء المولدات لفترات محددة قبل وبعد الصلوات.
كانت المعاناة قاسية ومزدوجة… يتدافع الناس، كباراً وصغاراً . نساءاً ورجالاً.. نحو ماتيسر لهم من مصادر و تناكر .. الصفوف استطالت، تقدمت وتأخرت.. (تلولوت) كانطواءات الثعابين .. تعتدل حيناً وأحياناً تميل.. والناس في صمت وصبر ينتظرون ، يرابطون. في تلك المواقع.. فجراً وضحى.. ظهراً ومساءاً.. وعلى أعتاب الليل.
لكن اللافت والمدهش، بل المفرح، أن ذلك التدافع المضني، والانتظار الطويل، لم يشكل عندهم، مدعاة لتوتر أو تضجر .. رغم ظرف الحرب التي اشعلها الجنجويد، وذراعهم المدني الذي زينها لهم، واختارهم أداة قاتلة منتهكة، لتفكيك جيش الوطن وتأجيج المصائب وإيقاد الفتن، وطمس الهوية، وملامح الوطن.
كانت تلك التجمعات تمتد إنتظاراً للحصول على ماتيسر من الماء ، بأوان مختلفة الأحجام والأشكال والألوان.. والناس في صبر واحتساب يتجمعون يتزايدون.. وبلا قلق أو شكوى ينتظرون، يتسامرون بل لبعض ذكرياتهم يجترون، وأحياناً، يتفاكهون..
يصبرون ويثابرون، لا عتاب بينهم، بل إن بعضهم يتفاضلون.. صغيرهم يوقر الكبير.. وكبارهم في وقار يبثون الموعظة والحكمة.. وبفداحة الإجحاف وغدر الجنجويد ومسانديهم من زمر الوشاة البغاة الصاغرين يذكرون.
ورغم معاناتهم، لا يتبرمون.. هم برحمة وغوث ربهم واثقون.. لا يسمع عنهم لغو جارح، ولا احتجاج صارخ، أو اتهام واجف لحاكم أو مسؤول أو هيئة أو حتى بحق مَن هم على خدمتهم قائمون.
يتكلمون في الرياضة والسياسة، وغيرها من الشؤون والشجون،.. يلعنون الغزاة الطغاة، ومن هم في غيهم يعمهون.
قدروا بوعي وإدراك،، ظرف ما فرضه عليهم و بلدهم وديارهم العدوان الآثم من اقتحامات و انتهاكات ووقاحات مليشيا الدعم المشين.. فسطروا بصبرهم ووعيهم بأبعاد ذاك الصنيع، قيماً رصينة تمشي على الأرض، لم تستجب قلوبهم ولا عقولهم، لمحاولات الشحن والتأليب والتلقين، من متلقي الحجج دعاة، التزمر والتوتر، ممن يجيدون الصيد في عاكر المياه، ثقالاً وخفافاً.. يستثمرون في الضوائق والأزمات.. والشعب النبيل الفطن، أدرك أنهم شرازم التأليب والتحريض والتلفيق والتلقين.. فكان أهل أم درمان ووافدوها،، فوق كيدهم، وغيهم وخبث المحرضين.
فأهدونا دروساً في الإدراك، وملحمة قيمية في الوعي والتقييم، وإحباط الزرائع.. و(تدوين) المشرّف من المواقف.. فألقموا حجارة نوايا وافواه المتربصين.
وهكذا تؤكد ملاحم العزة والكرامة أن شعبنا لن يسمح بعد اليوم، لأي حالات إختطاف والتفاف..ولا مكانة عنده ولاخانة لدخيل انتهازي مرائي أو عميل.
وطني درجت على هواك..
أنا لن أحن إلى سواك..
نقلا عن “المحقق”