وعادت الكباشي

حسين خوجلي
في منتصف الخمسينات سافر الوالد عليه الرحمة إلى القاهرة في رحلة استشفاء وقد أضطر شقيقنا الأكبر شيخ العرب حسن خوجلي أن يترك الدراسة الثانوية رغم مثابرته ليدير أعمال الوالد في غيابه كانت تضحيته كبيرة وأصر أن يواصل في العمل التجاري حتى بعد عودة الوالد وأشرف على تربيتنا والإنفاق علينا وإرشادنا حتى رحيله المر قبل سنوات لقد أورثنا حسن عليه الرحمة الكثير من الفضائل حرية الرأي والاعتداد والكرم والشجاعة وحب الآخرين، ورغم صغر سنه عندما التحق بالعمل التجاري فقد كان يصادق ويرافق الكبار من أهل الحكمة والتجارب والقيم، كان في مقدمتهم صديق عمره الخليفة الجيلي دفع الله الكباشي الأمير السوداني الكبير الحكيم العارف الشجاع، وصديقه أحمد علي كمبال (كوكب الحلفايا) وإبنه الراحل علاء الدين الباحث الشعبي الكبير، وعكير الدامر، ورجل الأعمال والبر والإحسان سيد طيب العربي، وعمدة الجريف الطيب خير والرجل الكريم ود القبائل الخير حاج موسى، والدكتور مدير معمل إستاك أحمد محمود، واللواء ورجل الشرطة الفذ محمد عبد الجبار، وحاج المهدي الكباشي والراحل مصطفى البلولة فتى السقاي الأغر، والراحل حسن صالح رجل المخابز الذي انتقل إلى الطباعة والنشر وأصبح حجة فيها ومحمود الخبير هؤلاء فقط هم الأخيار من الذين عرفتهم في مدينة بحري، وهناك مئات الأصدقاء في مدن السودان وبواديه في منتصف الخمسينات سافر المختلفة، وأرجو أن أكتب يوما مقالا عن هؤلاء الكبار لتواصل المعرفة والصلات التي أرجو أن لا يقطعها الزمان الأغبر ولا النكبة.
حيث كانوا هم وكان متجره الشهير للأقمشة بالسوق الجديد ومازلت أذكر النيمة الظليلة أمام معروضات حسن خوجلي للأقمشة وهي تعج بهؤلاء النجوم، وكانت الطلبات من البارد والساخن لا تنقطع من قهوة الرشيد الشهيرة والتي كان أمامها هذا الرجل الفنان وقد أدارها بطراز لم أجد له مثيل في كل العواصم التي زرتها، فكان كل الذي يقدمه في قرارته طعم ومذاق وفي شكله جاذبية ولون .
وتحت هذه النيمة المباركة عرفت وأنا صبي أقدار الرجال وجميل الشعر والطرفة والمثل وعريق وأنيق المفردات أذكر أنني قد حضرت يوماً وأنا بالجامعة لزيارة شقيقنا حسن بمحلاته التجارية ببحري، ففوجئت بأن النيمة الشهيرة ما زالت تعج بأهلها بذات الأنس الوضيئ وذات الكرم الفياض، توقفت سيارة الميركري الأمريكية الباذخة وترجل عنها شيخ الجيلي دفع الله الكباشي بقامته المديدة، وطلة صباح الخير التي عرفت به وعرف بها، ورغم تقدم السن كان مازال وسيما قسيما بثوبه وعمامته واطلالته البهية التي يتوقف عندها جمهور كثيف من الرجال والنساء ،
ويطل الظريف التوم ود الحر رفيق عمره وسائقه وصندوق أسراره سلمت عليه ورحبت به وكان بعد جلوسه المهيب واسطة العقد في مجلس الكرام وقال لي أمراً وراجيا : حدثني الشريف بأن عندك انتخابات في الجامعة وهو أمر معتبر عندي ومقدر، ولكن عليك الجيلي ألا تنسى أن تشرفني الخميس القادم صفتن البقت للأكرمين صفاية في الكباشي موعد فرح وعقد قران ما كفاها أحمد كوكب الحلفاية شقيقكم الشعراني والدعوة هذه لكل للكباشي جات بعمرنا الكفاية الجامعة نساءً ورجالاً وقول ليهم على لساني حرم الثريد بالكوريك حفا يا والدمعة بالقيزان واللبن بالقرعة والشريوت فضلة خيركم. فقلت له ممازحا لكن يا شيخ الجيلي في الضلمة دي نعرف الكباشي كيف؟ فأجابني ضاحكاً أمسك يا الشريف نمة المهاجري
الدرب الشحط واللوس جباله اتناطن
والبندر فوانيرو البيوقدن ماتن
بنوت هضاليم الخلا البنجاطن
أسرع قودع أمسيت والمواعيد فاتن
وبعدما يكمل الطرب تب عد أربعة حلال وأقيف طرف الشارع وصيح يا إبراهيم يا الكباشي يا دفع الله يا الجيلي يا طه يا عبدالوهاب يا المسلمي يا الكارث يا المهدي يا الشعراني يا المكاشفي يا البكري، أكان ما جاك بعد الصيحة فارساً جاري خروفاً بلدي وحلف في شهامة علي الطلاق تاكلوا كرامتي قبال دعوة شيخ الجيلي وكان دا ما حصل أمشو قدام دي ما الكباشي.
قالها كلمات فاضت من الرجل في عفوية وصفاء حتى تمنى الجميع الا تنتهي دعوته المفصحة.
ومازلت أذكر بكاء العميد حسن خوجلي بعد رحيل شيخ الجيلي وهو يبكي كلما عاوده الحنين الدنيا شن فضل فيها بعد موت شيخ الجيلي وعبد الإله، وكان يردد مرثية عكير الدامر الفاجعة في رثاء الخليفة الجيلي :
صفتنا البقت للأكرمين صفاية
ما كفاها أحمد كوكب الحلفاية
للكباشي جات بي عُمرتا الكفاية
كايسه الجيلي منزعجة ورجولا حفاية
وقد حزنت مجدداً حزناً استدر العبرات والدموع حين تنامى إلى سمعي قبل أشهر أن ميليشيا المرتزقة من النهابين والقتلة قد اقتحموا قرية الكباشي المباركة وعصفوا بالمسيد والخلاوي وبيوت الكرام وقتلوا واستباحوا بيدرا من السماحة والصلاح والعراقة والتاريخ.
وسعدت قبل أيام أيما سعادة تماثل الحزن الكبير بعودة هؤلاء الكرام إلى ديارهم الفياضة بالكرم والنعمة والجيران والحيران والقرآن والأماديح، وقد عاد الرجل الصالح الكريم الأصيل الفقيه العالم الخليفة عبد الوهاب الكباشي إلى داره قمرا منيرا بيد سلفت ودين مستحق وعطاء لا ينقطع وفتاوى ليس فيها زيغ ولا تزيد ولا فضول عزاً لأهله وبلاده وقومه وكل بيوت الصالحين في كل أرجاء بلادنا وهي تستقبل العقول والقلوب قبل الخطى، ويصيح الشاهد وقد شق صوته الساطع الفيافي والظلمات يا أهل الصلاح والفلاح والتقى والمكرمات لقد أضاءت الدنا وأومضت الجوانح وعادت الكباشي.