وطن على حافة الأمل: كيف ينهض السودان بعد الحرب؟

مقدمة:واقع الدمار والتحدي الحضاري
يقف السودان اليوم في لحظة مفصلية من تاريخه الحديث، إذ تدخل الحرب الأهلية عامها الثالث تاركة خلفها تدميراً واسع النطاق لكل جوانب الحياة. تشير التقديرات المستندة إلى مصادر موثوقة أن عدد القتلى في الحرب تجاوز 150,000 شخص، وتخطى عدد المهجرين قسراً داخل وخارج البلاد عتبة 12 مليون إنسان، في أكبر أزمة نزوح يشهدها السودان على الإطلاق.
على الصعيد الاقتصادي، شهد السودان عام 2023 أكبر انكماش اقتصادي في تاريخه الحديث، إذ انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تقارب 37.5% نتيجة تدمير القدرات الإنتاجية، تعطّل الأعمال والخدمات، وانهيار أدوات الاقتصاد الرسمي، بينما تجاوز معدل التضخم 240%. هذا الانهيار ترافَقَ مع شبه شلل في البنية التحتية الحيوية، حيث تعرضت معظم المنشآت الحيوية للدمار الشامل؛ أُغلِق نصف مستشفيات العاصمة ومعظم مدن البلاد بسبب القصف والنهب بما أضعف سبل رعاية ملايين السكان، ودُمرت شبكات الكهرباء والمياه، بالإضافة إلى الجسور والمطارات الرئيسية.
وسط هذا الظرف الكارثي، يقف السودانيون اليوم أمام تحدٍ حضاري وتاريخي شبيه بما واجهته شعوب أخرى استيقظت من تحت ركام الحروب والكوارث، مثل الولايات المتحدة إبان الكساد العظيم، واليابان عقب الحرب العالمية الثانية. فقد استطاعت هذه الشعوب، من خلال إصلاح مؤسسات الدولة، وإعادة بناء البنية التحتية وتنمية رأس المال البشري، التحول من دوامة الانهيار إلى نماذج عالمية في التعافي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
رغم جسامة التحديات التي يواجهها السودانيون اليوم، إلا أن التاريخ يعلمنا أن الشعوب قادرة على النهوض من تحت الركام متى توفرت الإرادة الصادقة والرؤية المشتركة. فبروح التضامن الوطني، والاستفادة الفاعلة من دعم المجتمع الدولي، واعتماد إصلاحات شاملة تستند إلى العدالة والمصالحة، يمكن للسودان أن يخطو بثقة نحو التعافي وبناء مستقبل أكثر إشراقاً. إن الأمل لا يزال حياً، وفرصة ولادة سودان جديد، أكثر عدلاً واستقراراً وازدهاراً، ليست بعيدة المنال إذا ما توحدت الجهود وتكاتفت الإرادات.
دروس التاريخ: النهوض من الرماد
تجربة أمريكا والكساد العظيم (1929-1940)
خلال الفترة من 1929 إلى 1940، واجهت الولايات المتحدة واحدة من أخطر الأزمات الاقتصادية في تاريخها، والمعروفة باسم الكساد العظيم. بدأت مع انهيار السوق المالي في عام 1929، مما أدى إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 29% بحلول عام 1933، ووصول نسبة البطالة إلى 24.9%. هذا الوضع الصعب استدعى تدخل الحكومة بقيادة الرئيس فرانكلين روزفلت من خلال برنامج “الصفقة الجديدة” الذي اعتمد على ثلاث ركائز رئيسية: الإغاثة للمتضررين، التعافي اقتصاديًا، والإصلاح لمنع حدوث مثل هذه الأزمات في المستقبل.
من بين الإصلاحات الرئيسية التي تم تطبيقها إنشاء نظام التأمين على الودائع المصرفية (FDIC)، الذي وفر ضمانًا للمدخرات المصرفية للأفراد، مما ساهم في إعادة ثقة الجمهور في البنوك. كذلك شملت الصفقة مجموعة من برامج الأشغال العامة، كهيئة وادي تينيسي، التي ساعدت في بناء البنية التحتية وتوفير فرص العمل، وقانون الضمان الاجتماعي الذي شكل حجر الزاوية للحماية الاجتماعية.
استثمرت الحكومة الأمريكية ما يعادل 40.1% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 1929 في برامج التعافي، مما مكن الاقتصاد من التعافي تدريجياً.
المعجزة اليابانية (1945-1970)
عندما استسلمت اليابان في أغسطس 1945، كانت قد فقدت ما بين 2.6 إلى 3.1 مليون شخص وتكبدت خسائر اقتصادية بلغت 56 مليار دولار. بحلول عام 1946، عاد نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى مستويات أوائل العشرينات.
نجحت اليابان في تحقيق ما يُعرف بـ”المعجزة الاقتصادية اليابانية” من خلال أربعة عوامل رئيسية:
1. التغيير التكنولوجي: استغلت اليابان الدمار لتبني تقنيات جديدة دون انتظار استهلاك الأصول القديمة
2. تراكم رؤوس الأموال: سياسات نقدية توسعية وفرت أموالاً رخيصة للصناعات النامية
3. تحسين نوعية وكمية العمالة: انتقال العمالة من القطاعات منخفضة الإنتاجية إلى عالية الإنتاجية
4. التجارة الدولية: نمو سريع في الصادرات مع التركيز على تغيير هيكل الصادرات كل بضع سنوات
حققت اليابان معدلات نمو تجاوزت 10% سنوياً لعقدين متتاليين، حيث بلغ المعدل 13.04% في الفترة 1955-1961. هذا النمو الاستثنائي مكن اليابان من استرداد مستويات ما قبل الحرب في غضون عقد واحد، والتحول إلى ثالث أكبر اقتصاد في العالم.
التحديات السودانية الراهنة
حجم الدمار والتشريد
تشير الإحصائيات إلى أن الحرب السودانية خلفت دماراً يفوق في بعض جوانبه ما شهدته أمريكا واليابان. فقد تشرد أكثر من 15 مليون شخص، بينهم 3 مليون عبروا الحدود كلاجئين. دُمرت أكثر من 80% من المستشفيات في مناطق النزاع، وتوقف 19 مليون طالب عن الدراسة. كما انخفضت قيمة الجنيه السوداني بنسبة 90% وفقد 4 ملايين شخص وظائفهم.
تضرر قطاع الكهرباء بشدة، حيث دُمرت جميع محطات توليد الكهرباء في الخرطوم، بينما تعرض سد مروي – أكبر مصدر للكهرباء في السودان – لهجمات بالطائرات المسيرة. تشير التقديرات إلى أن إعادة إعمار الخرطوم وحدها ستحتاج إلى 300 مليار دولار، بينما تحتاج بقية أنحاء السودان إلى 700 مليار دولار إضافية.
استراتيجية النهوض السوداني: رؤية شاملة
المرحلة الأولى: الإغاثة الفورية (0-2 سنة)
تتطلب هذه المرحلة إحلال السلام وتركيز الجهود علىالأولويات الإنسانية العاجلة:
• إعادة توطين النازحين وتوفير الخدمات الأساسية
• إعادة تأهيل المستشفيات والمرافق الصحية الحيوية وكذلك تأهيل المدارس والجامعات والمرافق التعليمية
• ضمان الأمن الغذائي وإعادة فتح الممرات التجارية
• إزالة الألغام وتطهير المناطق الملوثة
كذلك تتطلب هذة المرحلة إعادة بناء الثقة المؤسسية:
• تشكيل حكومة انتقالية موحدة بمشاركة مدنية واسعة
• إعادة تأهيل القطاع المصرفي وضمان استقرار العملة
• إطلاق برامج تشغيل عاجلة للشباب والعاطلين
المرحلة الثانية: البناء والاستقرار (2-5 سنوات)
إعادة بناء البنية التحتية الحيوية:
اتباع النموذج الأمريكي في الاستثمار الحكومي الضخم، مع التركيز على:
• إعادة تأهيل شبكة الطرق والجسور (7000 كيلومتر من الطرق المعبدة)
• إعادة بناء محطات الكهرباء وشبكات التوزيع
• تطوير شبكات الاتصالات الرقمية المرنة
• إعادة تأهيل المطارات والموانئ
كذلك تركز هذة المرحلة علي التحول المؤسسي والحوكمة:
• إقرار دستور جديد يضمن اللامركزية والتمثيل العادل
• تأسيس مؤسسات مكافحة الفساد مستقلة وفعالة
• إصلاح القطاع الأمني وإعادة هيكلة القوات المسلحة
• تطوير نظام قضائي مستقل ونزيه
المرحلة الثالثة: التنمية والنمو (5-10 سنوات)
التنويع الاقتصادي والنمو استلهاماً من التجربة اليابانية:
• استغلال الميزة النسبية الزراعية وتطوير الصناعات الغذائية
• تطوير قطاع التعدين بشفافية وحوكمة رشيدة
• الاستثمار في التعليم التقني والتدريب المهني
• تطوير الصناعات الخفيفة والمتوسطة
تركز هذة المرحلة تحديدا علي بناء رأس المال البشري:
• إصلاح شامل للنظام التعليمي مع التركيز على التعليم التقني
• برامج تدريب وإعادة تأهيل للشباب والمرأة
• تطوير قطاع الصحة ومكافحة الأمراض المتوطنة
• تعزيز مشاركة المرأة في القوى العاملة
المرحلة الرابعة: الاستدامة والتكامل (10+ سنة)
التكامل الإقليمي والدولي:
• تطوير علاقات تجارية متوازنة مع دول الجوار
• الانضمام إلى التكتلات الاقتصادية الإقليمية
• بناء شراكات استراتيجية مع القوى الدولية
• تحقيق الاكتفاء الذاتي في القطاعات الحيوية
التحول الاجتماعي والسياسي
تغيير الشخصية السودانية
الحروب والأزمات الكبرى غالباً ما تُحدث تحولات جذرية في الشخصية الوطنية. فكما خرجت أمريكا من الكساد العظيم بثقة أكبر في دور الدولة والعمل الجماعي، وكما تطورت الشخصية اليابانية لتصبح أكثر انضباطاً وتركيزاً على الجودة، فإن السودان يحتاج إلى:
أ. تعزيز ثقافة المواطنة والمشاركة :
• نبذ الهويات الفرعية المدمرة والتأكيد على الهوية السودانية الجامعة
• تطوير ثقافة الحوار والتسامح بدلاً من العنف
• تعزيز قيم الشفافية والمساءلة في الحياة العامة
• بناء ثقة متبادلة بين مكونات المجتمع السوداني
ب. بناء دولة القانون وسيادته
• إعادة بناء سيادة القانون يتطلب إصلاح واستقلال المؤسسات القضائية والأمنية وتعزيز ثقافة القانون وسط المواطنين، مع إشراك المجتمع المدني في الرقابة على السلطة.
• التطبيق الشفاف للعدالة الانتقالية ومحاسبة المتسببين في الانتهاكات ركيزة أساسية ليشعر المواطن أن القانون فوق الجميع.
• تنويع مصادر شرعية مؤسسات الدولة عبر تقوية آليات المشاركة الشعبية واحترام الحقوق الأساسية، ما سيعيد الثقة في الدولة.
البنية السياسية ومستقبل الأحزاب
أ. ملامح السياسة الجديدة
• انتهاء صلاحية التحالفات التقليدية القائمة على المحاصصة والمحسوبيات والأيديولوجيات القديمة. فالبنية الاجتماعية والسياسية تغيرت من جذورها بسبب الحرب والنزوح.
• صعود قوى شابة، ومجموعات من خارج المراكز التقليدية للسلطة، وارتفاع أهمية الناشطين المدنيين وقادة المبادرات المجتمعية المحلية.
ب. سلوك التصويت والشخصية السودانية الجديدة
• من المتوقع أن تتغير الأولويات الانتخابية للسودانيين لتتجه نحو البرامج الواقعية، الحلول الملموسة، والقيادات ذات المصداقية العملية.
• قد تندثر أحزاب تاريخية أو تتلاشى شعبيتها لصالح كيانات جديدة أكثر قرباً من نبض الشارع وقادرة على تقديم حلول عملية.
ج. كيف تكسب الأحزاب صوت الناخب؟
• تقديم برامج تفصيلية للنهوض السريع بخدمات الصحة والتعليم والبنية التحتية.
• الشفافية ومحاربة الفساد، وتبني لغة جديدة تحاكي التحديات اليومية للمواطن وليست مجرد شعارات.
• الانفتاح على تحالفات عابرة للأقاليم والنخب، تستوعب الفئات المهمشة.
دور المجتمع المدني
يلعب المجتمع المدني السوداني دوراً محورياً في عملية التحول، حيث أظهرت الأزمة الحالية مرونة واستعداداً للعمل في ظروف صعبة. يجب تعزيز دوره من خلال:
أ.تقوية القدرات المؤسسية:
• تطوير مهارات التخطيط والإدارة
• بناء شبكات تعاون فعالة بين المنظمات
• تعزيز الشفافية والمساءلة الداخلية
ب.توسيع نطاق العمل:
• المشاركة في صياغة السياسات العامة
• مراقبة تنفيذ برامج الإعمار
• بناء جسور الثقة بين المجتمعات المحلية
التحديات والفرص في البيئة الإقليمية والدولية
التعامل مع الاستقطاب الإقليمي
يواجه السودان تحدي الموقع الاستراتيجي الذي يجعله محط أنظار القوى الإقليمية والدولية. للتعامل مع هذا التحدي:
أ. تبني سياسة خارجية متوازنة:
• عدم الانحياز الكامل لأي محور إقليمي أو دولي
• بناء علاقات براغماتية تخدم المصالح السودانية
• التركيز على التعاون الاقتصادي أكثر من التحالفات السياسية
ب.استغلال الثروات الطبيعية:
• تطوير قطاع النفط والغاز بشراكات دولية متنوعة
• استثمار الذهب والمعادن النفيسة لتمويل التنمية
• الاستفادة من الأراضي الزراعية الواسعة لتحقيق الأمن الغذائي الإقليمي
مقترحات واقعية للنهوض السريع
على المدى القريب (6-24 شهر)
أ.السلام والاستقرار:
• بسط الأمن والسلام في جميع انحاء البلاد
• نشر قوات الجيش والقوات الامنية في جميع ربوع السودان وبسط الأمن والاستقرار
• إطلاق حوار وطني شامل بمشاركة جميع القوى
ب.الإغاثة والخدمات العاجلة:
• تأمين ممرات إنسانية آمنة لإيصال المساعدات
• إعادة تأهيل المستشفيات والمدارس في المناطق المحررة
• إطلاق برامج “المال مقابل العمل” لتشغيل العاطلين
على المدى المتوسط (2-5 سنوات)
أ.الإصلاح المؤسسي والحوكمة:
• إقرار دستور جديد يضمن الفيدرالية واللامركزية
• إجراء انتخابات نزيهة وشفافة
• تأسيس مؤسسات مكافحة الفساد مستقلة
ب.البنية التحتية والاقتصاد:
• إطلاق خطة مارشال سودانية بتمويل دولي
• إعادة بناء شبكات الكهرباء والمياه والطرق
• تطوير القطاعات الإنتاجية (زراعة، صناعة، خدمات)
على المدى الطويل (5-15 سنة)
أ.التنمية المستدامة:
• تحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030
• بناء اقتصاد معرفي قائم على التكنولوجيا
• تحقيق التكامل الاقتصادي الإقليمي
ب.الاستقرار والديمقراطية:
• ترسيخ التقاليد الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة
• بناء مجتمع مدني قوي ومؤثر
• تحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية
التمويل واستراتيجية الاستثمار
تشير التقديرات إلى أن السودان يحتاج إلى 24.3 مليار دولار سنوياً لتسريع التحول الهيكلي. هذا المبلغ الضخم يتطلب:
أ.تنويع مصادر التمويل:
• المنح والقروض الميسرة من المؤسسات الدولية
• استثمارات القطاع الخاص المحلي والأجنبي
• عائدات الثروات الطبيعية (نفط، ذهب، زراعة)
• تحويلات المغتربين السودانيين
ب.ضمان الاستخدام الأمثل للموارد:
• تطبيق معايير الشفافية والحوكمة الرشيدة
• إشراك المجتمع المدني في مراقبة الإنفاق
• تبني نظم المحاسبة والمساءلة الحديثة
خاتمة: آفاق المستقبل
التجارب التاريخية لأمريكا واليابان تؤكد أن النهوض من الكوارث الاقتصادية والحروب ممكن، ولكنه يتطلب إرادة سياسية قوية ورؤية استراتيجية واضحة ومشاركة شعبية واسعة. السودان، بثرواته الطبيعية الهائلة وموقعه الاستراتيجي المتميز وشعبه الشاب المتعلم، يملك جميع المقومات لتحقيق نهضة حقيقية.
النجاح في هذا التحدي يتطلب من السودانيين جميعاً – قادة عسكريين ومدنيين ومثقفين ومجتمع مدني – التعلم من أخطاء الماضي والعمل بروح الفريق الواحد لبناء دولة عصرية تخدم جميع مواطنيها. كما يتطلب من المجتمع الدولي دعماً حقيقياً ومستداماً للشعب السوداني في رحلته نحو التعافي والنهوض.
الطريق طويل وشاق، لكن التاريخ يعلمنا أن الشعوب التي تتحد حول رؤية مشتركة وتعمل بإصرار وعزيمة قادرة على تحقيق المعجزات. السودان قادر على أن يكون قصة نجاح أخرى في مسيرة الشعوب نحو التقدم والازدهار، شريطة أن يختار أبناؤه طريق السلام والتنمية بدلاً من طريق الحرب والدمار.



