يُنذرك أول شارع كرري، على المدخل الشمالي الرئيس صوب سوق أم درمان، بأنّ الخراب في السوق فادح. وطوال تقدّمك المذهول في الشارع الحيويّ الفاصل بين حي ود نوباوي وحيَّي العمدة والمَسالْمة، تتصاعد أمامك أهوال الخراب والدمار والفجائع. وكلما توغّلت أكثر، تبدّت آثار الرصاص الكثيف مخترقاً جدران المنازل المهجورة، ودخان الحرائق مطبوعاً، كلافتات مشؤومة، على المحال البسيطة على جانبي الطريق. وبحسب ما شاهده مُراسل «أتَـر» لا أثر للزحام الذي كانت تضجّ به ذاكرة الشارع الضيق قبل مأساة الحرب: «علي شايقي للمكرفونات»، عمّال الثلج صباحاً، معارض الثلاجات والمكيّفات المنزلية، التاكسي التعاوني، قسم الشرطة، «دكّان نقد الله»، سرّيحة القهوة يتخلّلون المارّة والطرقات، دكاكين الخردة، روائح الخيوط والغراء والنشارة المبتلّة. مصانع الأحذية مختبئة في الأزقة القريبة، «برج البركة»، الترزيّة المنكبّون على ماكينات الخياطة، المارّة وباعة الصحف الجائلون، طرابيز الكنافة والنبق الكردفاني والتسالي، ازدحام بداية السوق من جهته الشمالية الشرقية.
بقعة التراث لأكثر من قرن، ظلّ الناس يرتادون سوق أم درمان من بقاع واتجاهات شتى في السودان، ويقصده التجّار من الأسواق الأخرى، وهو من أكبر وأعرق أسواق العاصمة وأكثرها ازدحاماً، ويمثّل بمبانيه وأزقته التراثية ومُنتجاته التقليدية حالةً ثقافيةً – أكثر من كونه سوقاً تجارياً – تتألّف من موتيفات صغيرة ومتداخلة تُشكّل حالته التراثية العامة، مُستقطباً السياح والأجانب؛ لتمتد أجزاء السوق من «سوق المويه» شرقاً، إلى سوق الموازين غرباً، ومن سوق الجلود والأنتيكات شمالاً، إلى ميدان البوسطة بجناحيه الشرقي والغربي، إلى المحطة الوسطى وسوق الطواقي وسوق الطيور وسوق الكتب وسوق العدّة وزنك الخضار وسوق التوابل وسوق العمّال والحرفيين، والعطارات والقهاوي القديمة والمطاعم الشعبية الواسعة.
منذ إنشائه، ظلّ سوق أم درمان في حالة توسّع أفقي، ملتهماً الأحياء المتاخمة والحواري الصغيرة المُجاوِرة، وعلى الرغم من استقطابه عدداً من البنايات العالية والأبراج الحديثة ظلّ محافظاً على شكله التراثي القديم، فشوارعه الداخلية لا تزال ضيقة وحميمة، وتحوّلت ساحاته إلى أسواق صغيرة مكتظّة بالباعة الجائلين والفرّيشة ومواقف المواصلات. وفي نهاية عام 2018 تعرّض السوق لحريق هائل، خلّف أضراراً بالغة في أجزاء واسعة من وسطه الضاجّ والحيوي.
اجتياح السوق ثمّ عودته
عندما اجتاحت قوات الدعم السريع سوق أم درمان الكبير، خلال الأشهر الأولى من الحرب، وضمن احتلالها أحياء المدينة القديمة المحيطة بالسوق، أخرجته بالكامل عن الخدمة. ومنذئذ، تعرّض السوق لأعمال نهب واسعة، وأُحرقت محاله التجارية ومخازنه الكبيرة في أحياء المَسالمة والعرب والبوسطة والشهداء. ولمدّة سنتين، تحوّل السوق إلى منطقة حربيّة نشطة، وميدان لمعارك عنيفة واشتباكات، وقصف مدفعي خلّف دماراً كبيراً في شوارعه وأزقته الضيقة، وفي مباني البنوك والقهاوي العريقة والمطاعم الشعبية وحتى مواقف المواصلات. وصار وسط السوق مرتعاً للكلاب الضالّة، تلتهم الجثث الملقاة تحت البرندات وفي الشوارع وفي كلّ مكان. ولم تعد إليه الحياة إلا في أبريل 2025، بعد مرور أكثر من سنة على استرداد أحياء أم درمان القديمة. يقول الصادق بشرى، أحد المتطوّعين في حملة نظافة السوق في حديث لمراسل «أتَـر» إنّ الوضع كان مريعاً والدمار شاملاً، طال حتى المسجد الكبير والكنائس في الأحياء القريبة من السوق، ونُهبت البنوك وأغلب المحال أو دُمّرت وأُحرقت. يصفُ بُشرى حملة النظافة: «طوال شهر كامل، أزالت فرق النظافة والمتطوّعون آلاف الأطنان من الأنقاض الكبيرة والمخلّفات وفتحت الطرقات. كان السوق موحشاً والروائح الكريهة والجثث وبقايا الحرب في كلّ مكان، ولا مياه ولا كهرباء. عقّمنا المنطقة بالكامل، وأبعدنا الكلاب والجثث من المكان، وبدأت الحياة تعود إلى السوق تدريجياً مع عودة بعض خطوط المواصلات». ويضيف: «يعمل بعض أبناء أم درمان القديمة في نظافة الشوارع وطلاء وتجديد صواني المرور واستعادة ما دمّرته الحرب».
يعثر الفوّال حسن، على مكان محترق الجدران وبلا أبواب، مقابل مركز فيصل الرياضي، في شارع عطارة التيمان، مُحاطاً بالمخلّفات التي أزالها بنفسه، ووضع مكانها بعض الكراسي ليجلس الفرّيشة القليلون الذين عادوا لعرْض بضاعتهم في البرندات المُحطّمة والمُحترِقة، والعمّال الذين يعملون في صيانة عدد من الدكاكين. يقدّم لهم حسن «فتة» الفول والعدس، ويخدمهم بهمة ونشاط عاليَيْن. يُخبر مراسل «أتَـر» أنه يعاني صعوبةً بالغةً في الحصول على المياه والثلج، لكنه يُبدي تفاؤلاً بزيادة تدفّق المواطنين اليومي صوب السوق، بعد عودة كثير من مواقف المواصلات للعمل، وربط السوق بعدة مناطق في العاصمة، وتوفر البضائع وتزايد حركة البيع والشراء واستتباب الأمن في السوق. يقول حسن: «نأمل أن يعود الزحام وتنشط الحركة وتفتح جميع المحلات أبوابها في أقرب وقت ممكن». بدَوره يقول عبد العاطي، أحد الفرّيشة، وهو يُعلِّق بضاعته أمام محلّ محطم بالكامل، إنه كان يستأجر هذا المحل قبل الحرب، ولأنه سافر قبل نشوب الحرب بأيام، لقضاء عطلة العيد في قريته بالنيل الأبيض لم يستطع إخراج بضاعته في الوقت المناسب فاحترقت بالكامل، وحين عاد قبل شهر من الآن، وبعد سنتين من النزوح، لم يجد سوى الحطام. يقول عبد العاطي حزيناً في حديثه لـ«أتر»: «لديّ ذكريات عزيزة مع هذا المحلّ، بنيتُه في السابق من الصفر، وعَدَني المالك بتأهيله وسنَفتحه من جديد، فالحي رزقه حي».
ويرصد مراسل «أتَـر» عودة عشرات التجّار للعمل في شارع الشنقيطي وسوق العناقريب غربي السوق الكبير، وازدحاماً متفرّقاً حول «زنكي الخضار» وسط السوق، وبعض النشاط التجاري حول ميدان البوسطة وشارع الموردة، وافتتاحاً ملحوظاً للمَغالق شرقي الجامع الكبير تقف أمامها عربات «الكارَو»، وبائعات الشاي يتوزّعن هنا وهناك. ويَشهد وسط السوق حركة دؤوبة لعمال البناء والصيانة وأعمال الحدادة لترميم بعض المحال التي تعرّضت للخراب، لكن أغلب المحال لا تزال مغلقة ومحطّمة ومهجورة.
بدا شارع الموردة، عند تقاطع الأغا وموقف حافلات الخرطوم، خالياً من المارّة والعربات، وكان قبل الحرب نقطة جذب كبيرة للعديد من المتبضعين والمارّة وروّاد المقتنيات الإلكترونية. ولم يستعد شارع الدكاترة عياداته ومحاله الأنيقة وازدحامه بعد، رغم أنّ الأضرار فيه تبدو قليلة مقارنة بشارع الشنقيطي وموقف مواصلات الثورات وحتى شمال السوق، حيث لا تزال المحال في سوق الجلود وإلى الغرب منه خاوية ومحترقة، أبوابها مخلوعة وبرنداتها محطّمة وموحشة. خسارات ترليونية
يُخبر محمد عمر الشيخ، أحد أكبر مورّدي الأواني المنزلية بسوق أم درمان، أنّ أغلب تجّار الأواني المنزلية في السوق خسروا رؤوس أموالهم، إما بالنهب أو جراء حرائق الحرب التي التهمت السوق ومخازن التجّار وشركاتهم، ومنهم مَن فقَد خمسين حاوية من الأواني المنزلية، ومَن فقَد 8700 كرتونة بورسلين، ولم يسعف الوقت كثيراً منهم لإجلاء بضاعتهم إلى أماكن آمنة، والذين أخرجوها إلى مدينة ود مدني أول الحرب واجهوا خسائر مزدوجة، وعانوا أشدّ المعاناة. وقد غادر كبار المورّدين البلاد.
في حديثه لمراسل «أتر»، يُقدّر الشيخ خسارته الشخصية بما لا يقلّ عن 5 ترليونات جنيه. وهو يزور السوق أكثر من ثلاث مرات أسبوعياً ويتابع افتتاح المتاجر وتدفّق حركة البضائع إلى السوق. يقول: «يواجه التجّار تحدي الإيجارات، فأصحاب الدكاكين يُطالبون بإيجارات جديدة، على الرغم من أنّ القانون لا يمنحهم هذا الحقّ، بينما يتمسّك المستأجرون بحقوقهم في الإيجار القديم، وطالب بعضُ أصحاب الدكاكين أن يدفع المستأجرون بالعملة الحرة». ويضيف: «طالبني صاحب الدكّان الذي أستأجره بـ 4 مليارات جنيه في الشهر، وكنت قبل الحرب أدفع 800 ألف جنيه. هذه مشكلة حقيقية تواجه تجّار سوق أم درمان، وفي المجمل لم يستقر كبار التجّار بعد بسبب الإيجارات، وهناك بعض المبادرات من التجّار باستضافة بعضهم بعضاً حتى يتمكّنوا من إيجاد حلول مُرضية للأطراف جميعها». ويُقدّر عودة سوق الأواني بنسبة 40% رغم الصعاب التي واجهت التجّار الذين لا يزالون يحاولون الرجوع تدريجياً.
