رأي

وداعا الفريق الفاتح عروة… القائد الذي مضى واقف  

 

الباقر شريف    

بينما كنت أتنقّل بين زخم الوسائط، غارقًا في زحام الأخبار اليومية، استوقفني خبر لم يكن كغيره. خبر ارتفع فوق ضجيج الحرب والسياسة وثرثرة اللحظة… رحيل الفريق الفاتح عروة.

لم يكن مجرد حدثٍ عابر، بل لحظة سكنت القلب قبل أن تتصدر العناوين. لقد ترك أثرًا يتجاوز حدود المناصب، ليصل إلى الأرواح التي تلامسته، والقلوب التي عرفته عن قرب، وحتى أولئك الذين لم يعرفوه شخصيًا، لكنهم شعروا بصداه في تفاصيل حياتهم.

من لم يكتب عن الرجل؟ من لم يُدلِ بشهادته؟

الشهادات لم تُستل من أرشيف الألقاب، بل وُلدت من نبض العِشرة، وخُطّت في وجدان من عرفوه عن قرب.

استمعت إلى شهادة عميقة ومؤثرة في بودكاست أدار حلقته الإعلامي اللامع سعد الكابلي، الذي أحسن توثيق تجربة الفاتح عروة، ليس كقائدٍ أمني أو إداري، بل كإنسانٍ خبر الحياة، وأدارها بحكمة وشغف.

ما لفتني – كما لفت كثيرين – هو حجم الثقة التي أحاط بها الجميع هذا الرجل. لم تكن ثقة منصب أو رتبة، بل ثقة في قدراته الإدارية الفذة، وذكائه المهني الحاد، ومرونته القيادية التي قلّما تجتمع في شخص واحد.

في حديثه، أرسل الفاتح عروة رسائل غير مباشرة وصادقة للشباب: حثّهم على التأهيل الحقيقي، والتعلم المتواصل، والتطور المهني الجاد. شدد على أن بناء الذات لا يتوقف عند شهادة ولا منصب، بل هو مسار طويل من الانضباط والإرادة.

وتجلّت هذه المبادئ في تجربته الرائدة في إدارة شركة زين، حيث لم يكن مجرد مدير أرقام وخطط، بل قائدًا يحوّل التحديات إلى فرص، ويعامل الموظفين كأصول ثمينة، لا كأرقام على ورق.

الحق يُقال: لم يكن مجرد قائد، بل طاقة نابضة بالإمكانات. قاد مؤسساتٍ بحجم أوطان، لكن ظلت إنسانيته عنوانه الأول. جمع بين الحزم حين يُطلب، والمرونة حين تُحتم، بين عقل الدولة، وقلب المواطن، فصنع بصمته بوعيٍ رفيع ومسؤولية نادرة.

في شهادات الكبار عن الكبار، يتجلى المعنى الحقيقي للقيادة. وكان الفاتح عروة، في كل ما قيل عنه، وفي كل ما فعله، قائدًا من طرازٍ نادر.

مضى كما يفعل العظماء… يسير على قدميه، محاطًا بفكره وقلمه، لا يكتب ليمحو أثرًا، بل ليرسم طريقًا لأجيالٍ قادمة. هكذا يكون الذين يصنعون التاريخ، لا على الهامش، بل في صلب الحكاية.

لم يخسر السودان مقعدًا سياسيًا… بل ودّع إنسانًا نادرًا.

رجلٌ بكرم يده، وصدق لسانه، واتساع رؤيته، ظل يقاتل من أجل وطنه حتى وهو يودّع الحياة بصمت الشجعان.

اللهم إن عبدك الفاتح عروة قد جاءك بقلبٍ كبير، وسيرةٍ ناصعة، ويدٍ أنفقت في الخفاء، ولسانٍ نطق بالحق.

فأكرمه بمقامات الصدق، وارفعه بجوارك يا أرحم الراحمين.

وإنا لله وإنا إليه راجعون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى