وداعاً حاج الأمين
المحبوب عبد السلام
من مفارقات أيامنا الغريبة الحزينة هذه أن يلقى الأمين علي خليفة ربه في غربةٍ غريبة بعيداً عن داره والأهل في بري، وألا تخف إلى تشييعه قبائل البطاحين والجموعية وغيرهم، وألا يتوافد إلى مقره قادة الأخوان المسلمين والأنصار والختمية والاتحاديين والشيوعيين، وألا يغلق سوق المحطة الرابعة أبوابه وألا تهدر أحياء شمبات وتوتي والحلفايا وسوبا وأحواز الخرطوم وضواحيها نحو الدرايسة، وكيف لا يجئ أحبابه من كل المدن من سنار إلى عمان ومن نيالا إلى حلفا، وألا ترتفع مآذن الخرطوم بالنعي والدعاء وألا يضمه ثرى السودان.
ذلك أن حاج الأمين كان مجتمعاً كاملاً متكاملاً قائماً بذاته، فرغم أنه من الرعيل الأول للحركة الإسلامية في منطقة الخرطوم إلا أنه طبع التزامه التنظيمي بميسمه الخاص وفاض على جماعته من سجاياه وأخلاقه وأثر عليها بأكثر مما أثرت عليه، فقد كان سودانياً صميماً لا تخرق سودانيته غواشى ٍ ولا تثلمها مواقف أو نوازل، وكانت سعة بيته الذي جعله قبلةً كما أوصى القرآن مثل سعة أخلاقه التي لم تفرق بين مواطنيه، يلقاهم جميعاً بالبشر والترحاب وأهم من ذلك يلقاهم بالنصيحة الصادقة فلا ريب أنه كان مقصد الجميع ومحل ثقتهم، ورغم أنه لم ينل أيما تعليم حديث فقد أتاه الله الحكمة، ومن يؤتى الحكمة فقد أؤتى خيراً كثيراً، يستغرق مع أمثالنا في نقاش السياسة والتنظيم والفكر، ريثما يدخل معه أهله من البطاحين في حديث الزراعة والمواسم والمحاصيل والأنعام الثمانية من البقر إثنيين ومن الغنم إثنيين ثم لا يلبث أن يقطع مجلسنا كبار قادة الحكم والحركة يزورونه في أيما وقت يطمئنون عليه أو يستفتونه في قطعة أرض أو شراء منزل أو مبادلة مزرعة أو زواج بنت أو ولد، وإذا هدأ البيت من الزوار وهو لا يهدأ إلا سويعات حدثنا حاج الأمين عن كيف كانت الخرطوم قبل نصف قرن، ويبدأ في سرد أسماء أعيانها وتجارها وأسعارها وبضائعها ومحاصيلها وقصصهم ومفارقاتهم وعن كل ما يحمله ذلك الزمن الهادئ الذي لم يشهد الهجرات العنيفة ولم تستغرقه الحروب والمجاعات والاوبئة، بل كانت المدينة تستقبل كل ذلك في سكينة وتمزجه في إبداع.
وإذ ضمت مقابر القاهرة جسد حاج الأمين وقدّر الله أن تنطوى تلك الصفحة الباهرة.. هنالك فقد انطوى معه سجلٌ كامل من التاريخ الاجتماعي ونقص كتابه إلى الأبد.
وإذ كنت من ذوي الحظ الذين عرفوا حاج الأمين وعقدوا معه صداقةً متينة فقد كنت لا أحار متى ما عنّ لي أو لأحدهم أن يلقاني في الخرطوم أن أضرب له موعداً في داره، حيثما حانت الساعة من الليل أو النهار نخف إلى المنزل القبلة، لا تحتاج لتخطره أو تخطر أحد أبنائه أو ترهق نفسك بالبحث عن أحفاده بالهاتف ليهيئوا مطرحاً للزائر، بل هو باب مفتوح لا تطرقه ولا تهمز أجراسه، ولكن من حيث الأبواب دخلت لقيت من يرحب ويدلك على المجلس ويخدمك بالضيافة الكريمة، قد تلقى الحاج نفسه وتأنس إليه ريثما يتعرف على ضيفك ويحدثه عن أهله ومنطقته وما كان من أمر ماضيها وحاضرها، فقد كان من تحضره وسماته النادرة أنه لا يفرق بين الناس ولا يتوقف عند حواجز الأعمار ولا الألوان، بل يستغرق في الحوار ويدهشك برأيه الذي ما اجتهد فى بسطه بل يبثه تلقاءً بغير عناء تزينه الحكمة وتحكمه التجربة، فقد كان حاج الامين من الفئة النادرة التي وصفها الجاحظ أن الأفكار أنما تنقدح في قريحتهم يزكيها ذكاؤهم الفطري.
كما أنني عقدت صداقة خاصةً مع أبنائه كافة وجمعتنا صحبةٌ طويلة وكثيراً ما نتفق فيما ابتلانا به الله من مشكلات حركتنا خاصة ومن مشكلات الوطن العامة، وكثيراً ما نشتجر وكثيراً ما يستمع حاج الأمين إلى أحاديثنا ونقاشنا المتصل في صمت وهدوء قبل أن يدلي برأيه وكأنه الكلمة الفصل وكثيراً ما ينصرف عنا كما ينصرف الكبير عن عبث الصغار، فقد حباه الله بالسلام النفسي لا يكاد يضطرب به موقف أو حادثة.
فمن مواقفه الكثيرة المتميزة أنه لم يعترف بمفاصلة الحركة الإسلامية السودانية الشهيرة أواخر القرن، وظل يزور أطرافها ويلقاهم كما ظل يلقاهم لعقود ممتدة وظلوا جميعاً يتوالون على بيته كما هو عهدهم من قديم، ولم يخفض أيّاً من الصور الفوتغرافية التى يعلقها أبنائه على جدران صالون المضياف، بل ظل أغلب الزوار يتعجبون من الجدار الذي جمع الإخوة الأعداء ويعجبون لسماحة الحاج النادرة، فهو من الطراز الأول شديد الصدق لم يقصد بالتزامه في حركة الإسلام إلا خدمة الإسلام ولم يطمح فى شئ من متاعها ووجاهتها ولا حتى أن يكون سياسياً.
أخرجت الحرب الأمين علي خليفة من بيته وبلده وكسر العدوان الشامل عزيمته في ألا يبرح داره وبلاده فقد اضطر غير باغٍ ولا عادٍ، وهو ذو شكيمة لا تلين قهر الموت أكثر من مرة وتقلب في المستشفيات يدخلها ويخرج منها في أيام معدودات معافاً إلى بيته وأهله وزواره وأصدقائه ويستأنف حياته كأن شيئاً لم يكن، اغتال البغاة بعد خروجه واحتلال داره حفيده الأكثر ملازمةً له وربما الأقرب إلى قلبه كما حدثني بعد أن بلغه الخبر ولم يزد أن يمدحه بأنه فارس شجاع لا ينيء عن البذل في بسالة وسخاء وقد كان حقاً كما وصفه.
ضمت مقابر القاهرة رفاته وهو الذي كان يزورها ولا يبارحه شعور العابر، وقد زرت معه أسواقها وحوانيتها لا يشغله إلا ما يشغل به مساحات المساجد التي بناها في أكثر من مكان وما يصلح به أمرها ويزين به جدرانها من الآيات والذكر الحكيم.
رحل حاج الأمين وهو ما يفتأ يذكرني بجد الراوي في موسم الهجرة لا كسنديانة في غابات أوروبا حنت عليها الطبيعة بالخصب والنماء ولكن كشجرة سيال في ذرى البطاحين عميقة الجذور دقيقة الأوراق تقاوم الموت لأنها لا تسرف في الحياة.
رحم الله حاج الأمين فقد مضى أيام مباركات من شهر رمضان الفضيل وكأنه انتظر فجر الجمعة ليسلم لها الروح مطمئناً في سلام كما عاش.