أمجد فريد الطيب
مقدمة
اندلع الصراع المسلح في السودان يوم 15 أبريل 2023، ليتسبب في أزمة إنسانية كارثية، شردت أكثر من 13 مليون شخص داخليًا، وأجبرت 4.1 مليون آخرين على الفرار كلاجئين، وأودت بحياة ما لا يقل عن 61,000 شخص في الخرطوم وحدها. يجد هذا الصراع جذوره في محاولة انقلاب فاشلة قادتها قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وقد طال أمده بسبب التدخلات الخارجية، خاصة من الإمارات العربية المتحدة، وتعقّد أكثر بفعل “متاهة معرفية” من التضليل الإعلامي الذي يُغيّم على أصول الصراع. كما أن تواطؤ ائتلاف “تقدم” (الذي أصبح لاحقًا “صمود”) بقيادة رئيس الوزراء الأسبق عبد الله حمدوك مع مليشيا قوات الدعم السريع قد زاد من تعقيد المشهد، إذ قدم غطاءً مدنيًا لطموحات هذه الميليشيا تحت شعارات السلام والتحول المدني. تُبشر التحركات الدبلوماسية الأمريكية الأخيرة للتعامل مع الأزمة السودانية، والتي أشار إليها وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، والمستشار الأمريكي لشؤون إفريقيا مسعد بولص، والرئيس ترامب، ببعض الأمل في التوصل إلى حل. ومع ذلك، يتوقف نجاح هذه التحركات في العمل على معالجة الأسباب الحقيقية للحرب، والتغلب على إخفاقات الوساطة السابقة، وتفكيك المتاهة المعرفية التي أخفت حقائق الحرب، ومواجهة الجهود المبذولة لشرعنة وجود مليشيا قوات الدعم السريع.
التحركات الدبلوماسية الأمريكية الأخيرة: نهج جديد؟
في 27 يونيو 2025، وخلال توقيع اتفاقية السلام بين الكونغو ورواندا بدعم من الولايات المتحدة وقطر في واشنطن، أعلن الوزير روبيو استعداد الولايات المتحدة لمعالجة الأزمة السودانية. جاء ذلك عقب اجتماع في 3 يونيو 2025 بين نائب وزير الخارجية الأمريكي كريستوفر لاندو، ومستشار ترامب لشؤون إفريقيا مسعد بولص، وسفراء السعودية ومصر والإمارات. وفي 2 يوليو 2025، كشف بولص عن خطط لعقد اجتماع وزاري في واشنطن مع وزراء خارجية لجنة رباعية جديدة (الولايات المتحدة، السعودية، مصر، والإمارات)، مع استثنا المملكة المتحدة التي كانت جزءًا من اللجنة الرباعية السابقة، لمعالجة الأزمة السودانية. واشارت تصريحات الرئيس ترامب اللاحقة بشأن الالتزام بالسلام في السودان وليبيا على جدية هذه التحركات. لكن يجب أن يضع الاجتماع المقترح إطارًا يضمن مشاركة السودان بشكل فعّال، لئلا يكرر “متلازمة اتفاق ميونيخ” – نموذج الدبلوماسية الاستبعادية التي تُجرى “عنّا، ولكن بدوننا” والتي أضعفت الجهود السابقة. سيعتمد نجاح هذه الجهود على التعلم من إخفاقات الماضي والتغلب عليها.
أصول الحرب الحالية في السودان
بدأت الحرب في 15 أبريل 2023، عندما حاولت قوات الدعم السريع، وهي ميليشيا شكلها الرئيس السابق عمر البشير في 2013 لإعادة تقديم ميليشيات الجنجويد سيئة السمعة، تنفيذ انقلاب للاستيلاء على السلطة. كان الهدف من الانقلاب تجنب دمجها في القوات المسلحة السودانية كما تطالب ثورة 2019. سعت قوات الدعم السريع إلى استغلال مفاوضات اتفاق الإطاري بعد انقلاب 2021 لتثبيت استقلاليتها وتأخير أي احتمالات للدمج إلى أجل غير مسمى، وبالتالي الحفاظ على نظامها الاقتصادي الافتراسي.
بدأت محاولة انقلاب قوات الدعم السريع للسيطرة على السلطة في 13 أبريل 2023 بحصار قاعدة مروي الجوية لتحييد القدرات الجوية للقوات المسلحة السودانية، تلاها هجمات في 15 أبريل على مواقع استراتيجية في الخرطوم، بما في ذلك القصر الرئاسي، مطار الخرطوم الدولي، وهيئة الاذاعة والتلفزيون الحكومي، حيث تم تسجيل مستشار قوات الدعم السريع يوسف عزت وهو يُعدّ إعلان الانقلاب. أكدت اللقطات والفيديوهات المسجلة نية قوات الدعم السريع الاستيلاء على الحكومة.
عندما فشل الانقلاب، صعدت قوات الدعم السريع تحركاتها إلى حرب شاملة، مُسببة كارثة إنسانية. أدى الصراع إلى نزوح أكثر من 15 مليون شخص وتسبب في فظائع غير مسبوقة، بما في ذلك مقتل أكثر من 61,000 مدني في الخرطوم ومذبحة قوات الدعم السريع لما لا يقل عن 15,000 من المساليت في غرب دارفور، والتي وصفتها الولايات المتحدة رسميًا بالإبادة الجماعية في يناير 2025.
جهود الوساطات السابقة وعيوبها
فشلت عدة جهود وساطة في تحقيق تقدم لوقف حرب السودان. أنتج منبر جدة، وهي مبادرة دشنتها السعودية والولايات المتحدة في مايو 2023، اتفاقًا لحماية المدنيين بحلول يونيو من ذلك العام. لكن قوات الدعم السريع تجاهلت تنفيذ بنوده، وواصلت احتلالها للمنشات المدنية بما يخالف المبادئ الأساسية للاتفاق. عزز هذا النمط من عدم الالتزام شكوك الحكومة السودانية تجاه أطر التفاوض المماثلة، بما في ذلك تحالف ALPS الذي عُقد في سويسرا في أغسطس 2024.
كما فشلت جهود أخرى استهدفت وقف دعم الإمارات لقوات الدعم السريع، بما في ذلك:
1 الوساطة الإثيوبية (يوليو 2024): توسط رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد لاجراء مكالمة بين رئيس المجلس السيادي السوداني عبد الفتاح البرهان ورئيس الإمارات محمد بن زايد، لكن قامت الإمارات بنشر المكالمة وتصويرها كتنازل سوداني، مما أفشل الجهود.
2 الوساطة التركية (ديسمبر 2024): حاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الحد من دعم الإمارات لقوات الدعم السريع، لكنه فشل بسبب مطالب الإمارات بعدد من التنازلات السياسية والاقتصادية.
3 الوساطة المصرية (يونيو 2025): انهار اقتراح مصر لعقد لقاء في شرم الشيخ بين السودان والإمارات بسبب اشتراط الإمارات إعادة اتفاق ميناء أبو عمامة الذي أُلغي بعد كشف توريد الإمارات للأسلحة إلى قوات الدعم السريع عبر تشاد وليبيا.
تعكس هذه الإخفاقات المتكررة عدم التزام الإمارات وعدم رغبتها في حل تفاوضي، بسبب غياب وسيط يمتلك النفوذ أو القوة الكافية لإجبار الإمارات على الالتزام. وكان تقرير لجنة خبراء الأمم المتحدة المعنية بدارفور الصادر في يناير 2024 برقم
(S/2024/65)
قد أكد بادلة موثوقة الدعم العسكري الإماراتي لقوات الدعم السريع. كما حدد أعضاء الكونغرس الأمريكي دعم الإمارات لمليشيا قوات الدعم السريع كعامل رئيسي في استمرار الحرب في السودان. وفي إحاطة قدمتها الادارة الامريكية للكونغرس في يناير 2025، أكدت الإدارة الأمريكية استمرار دعم الإمارات لقوات الدعم السريع، مخالفةً لتعهداتها السابقة بوقفه.
المتاهة المعرفية: التضليل الذي يحجب الصراع
تشير هذا المتاهة المعرفية إلى حملة تضليل متكاملة تهدف إلى التعتيم على طبيعة الحرب في السودان، وأطرافها الرئيسية، وديناميكياتها الهيكلية. هذه الحملة، التي تقودها شبكات موالية لقوات الدعم السريع والإمارات وتُضخّم عبر جهات محلية وإقليمية ودولية متواطئة ووسائل إعلام، تهدف بشكل متعمد الي خلق سردية مغايرة عن الحرب. هدفها إخفاء المحفز الأساسي للصراع: محاولة انقلاب قوات الدعم السريع في أبريل 2023. ومن خلال ذلك، تسعى إلى إعادة صياغة الحرب عبر خطابات مضللة تخدم أجندات جيوسياسية وسياسية محددة، مما يعقد جهود الوساطة ويقوض المساءلة.
تشمل العناصر الرئيسية لهذه المتاهة المعرفية:
4 التشويه في توصيف الصراع:
قدّمت بعض الجهات السياسية، وعلى رأسها عبد الله حمدوك وائتلاف تقدم/صمود، سردية مغايرة تحاول تصوّير الصراع السوداني على أنه صراع ضد عودة مزعومة لعناصر “إسلامية” مرتبطة بنظام البشير السابق. هذه الرواية تربط القوات المسلحة السودانية بجماعات متطرفة مثل حماس، والقاعدة، وداعش، وحتى إيران، وهي ادعاءات تفتقر إلى أساس جوهري. مثال بارز هو مقال نُشر في مايو 2024 في صحيفة “جيروزاليم بوست”، مدعوم من جهات إماراتية، والذي يروّج لهذا الخط للتأثير على التصورات الغربية وتعزيز الدعم الدولي لمحور موالٍ لقوات الدعم السريع. من خلال استحضار شبح الإسلاموية، سعى حمدوك وشخصيات أخرى في صمود إلى تبرير تحالفهم الاستراتيجي مع الإمارات وتسامحهم الضمني مع الدور السياسي لقوات الدعم السريع، على الرغم من سجلها الموثق من الفظائع. هذا الاستخدام الأداتي لتسمية الإسلاموية يحجب الجهات ذات المسؤولية الحقيقية عن الحرب، مع تآكل مصداقية الجهات السودانية التي تدعو إلى نظام مدني وديمقراطي حقيقي.
5 اعادة الصياغة التاريخية:
تم إعادة صياغة محاولة انقلاب قوات الدعم السريع – التي بدأت بحصار قاعدة مروي الجوية في 13 أبريل 2023، تلاها هجمات منسقة في 15 أبريل – على أنها صراع مشروع ضد عدم المساواة الهيكلية المتأصلة وكامتداد لمقاومة الجماعات المهمشة تاريخيًا ضد النخبة السياسية في الخرطوم. هذه الرواية تحجب بشكل استراتيجي سجل قوات الدعم السريع الموثق من الفظائع وهويتها الأساسية كميليشيا تشكلت في ظل نظام البشير. كما أنها تتجاهل فشل قوات الدعم السريع في تقديم أو تنفيذ أي إطار حوكمة متماسك في المناطق التي تسيطر عليها، والتي أصبحت مرادفة للفوضى، والنهب المنهجي، والجريمة المنظمة.
6 المساواة الزائفة:
تصوير القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع كجهات متكافئة أخلاقيًا أو سياسيًا يمثل مساواة زائفة خطيرة. بينما ارتكب الطرفان انتهاكات، يستمر المدنيون في الفرار بأعداد هائلة من المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع بحثًا عن ملجأ في الأراضي التي تسيطر عليها القوات المسلحة. إن مساواة جيش وطني – رغم عيوبه – بكيان شبه عسكري نشأ كميليشيا إبادة جماعية ويعمل الآن كقوة مرتزقة يحجب الفروق الأساسية في المهام والسلوك. تؤكد البيانات الواردة من مصادر مستقلة هذا التباين: 77% من الانتهاكات الموثقة ضد المدنيين تُعزى إلى قوات الدعم السريع، مقارنة بأقل من 15% مرتبطة بالقوات المسلحة. علاوة على ذلك، تظل القوات المسلحة مدمجة ضمن إطار حكومي شرعي يوفر، على الرغم من التحديات، خدمات اجتماعية ويحافظ على درجة من الاستقرار للسكان تحت سلطتها. هذه المساواة الزائفة تعزز بيئة مواتية للإفلات من العقاب المؤسسي، وتروج ضمنيًا للعمل السياسي المسلح من أجل السلطة كمعيار للممارسة السياسية، وتقوض المبادرات التي تهدف إلى العدالة وإعادة بناء الدولة الشاملة. من خلال محو الفروق الحاسمة بين هذه الجهات، يتم المساس بأي مسار متماسك نحو السلام المستدام، والإصلاح السياسي، والمساءلة في السودان.
7 تسخير خطاب السلام:
يتضمن ذلك الاستخدام المحسوب لخطاب السلام للمطالبة بتنازلات سياسية لقوات الدعم السريع، متجاهلة سلوكها الإبادي الموثق واقتصاد الحرب المتأصل الذي يدعم قوتها. من خلال تغليف الأهداف العنيفة بلغة السلام، يشوه هذا الخطاب الحاجة الملحة وطبيعة الصراع، مما يمكّن قوات الدعم السريع من استغلال الجهات الدولية والإقليمية لتحقيق مكاسب سياسية دون مساءلة أو إصلاح هيكلي. ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بهذا التكتيك هو التضليل عبر خطاب إنساني، حيث يُستخدم استحضار القضايا الإنسانية بشكل انتقائي واستراتيجي كستار لإخفاء استهداف قوات الدعم السريع المنهجي للمدنيين وتسليحها للوصول إلى المساعدات الانسانية للسيطرة على السكان وتعزيز هيمنتها الإقليمية. لا يؤدي هذا التكتيك إلى تضليل الاهتمام الدولي فحسب، بل يقوض الجهود الإنسانية الحقيقية من خلال تسييس المساعدات. علاوة على ذلك، تشمل هذه الحملة التزييف المتعمد للحقائق، حيث تُنسب الانتهاكات التي ارتكبتها قوات الدعم السريع زورًا إلى القوات المسلحة السودانية. كررت بعض الائتلافات المدنية الموالية لمصالح قوات الدعم السريع هذه التشوهات، بما في ذلك الجبهة المدنية، التي كانت سلف ائتلاف تقدم، ومن ثم تحالف تقدم نفسه، مما أدى إلى اعتذارات علنية عندما تم كشف هذه التزييفات. كما استُخدم هذا التلاعب بالحقيقة لتبرير هجوم قوات الدعم السريع على منشآت المدنيين ومخيمات النازحين مثل مخيم زمزم، مما يقوض الثقة في التقارير الموثوقة ويضعف آفاق العدالة والمصالحة.
8 انتهاك الوكالة السودانية:
أحد الأبعاد الحرجة للمتاهة المعرفية هو محو الوكالة السودانية الحقيقية بشكل منهجي، والذي يتجلى من خلال تمركز الجهات الخارجية والمصالح الجيوسياسية الإقليمية على حساب المقاومة السياسية المحلية الأصيلة، والمعاناة الشعبية، والرؤى المحلية لمستقبل البلاد.
هل يمكن للجهود الدبلوماسية الأمريكية الأخيرة أن تفتح الباب لإنهاء الحرب في السودان؟
