هل تعاني قوى الحرية والتغيير من “جت لاق”؟

في الذكرى السابعة لثورة 19 ديسمبر 2018: هل اندلعت الثورة أم أنها بصدد الاندلاع؟
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
(ستحتفل “قحت”، إذا ما كانت لا تزال متحرفة للنضال ضد “الفلول”، بثورة إما أنها حدثت ولم تصِب هدفاً، أو أنها لم تحدث. فـ”قحت” بمثل هذا النضال لا تزال على ضفة المعارضة لـ”دولة الإنقاذ” بينما تغيرت الأشياء من حولها كثيراً).
لا يعرف المرء إن مرت ذكرى ثورة الـ19 من ديسمبر عام 2018 على “قوى الحرية والتغيير” التي كانت في قيادة الثورة والدولة التي تمخضت عنها، احتفالاً بها أو تأبيناً لها كأن لم تكُن. فيكفي أنه في يوم المسلمين هذا تتنادى جماعات من هذه القوى بما أطلقت عليه “إعلان المبادئ لبناء وطن جديد” في أثر الرباعية لاستبعاد الإسلاميين من العملية السياسية بعد إنهاء الحرب وإعلانها “جماعة إرهابية”. ولو اقتصر الإعلان على مفاسد الإسلاميين في دولتهم ما بين أعوام 1989 و2019 لإعلانهم جماعة إرهابية لجاز الأمر. إلا أن الإعلان شكا من شوكة جماعة الإسلاميين في يومنا هذا بمطالبته بـ”إخراج عناصرها من القطاع الأمني وتصفية تمكينها في أجهزة الدولة والاقتصاد”. والسؤال الذي لا مهرب منه هنا، وفيمَ كانت ثورة ديسمبر المجيدة؟ فمبلغ علمنا أنها أطاحت بنظام الإسلاميين، “الإنقاذ”، وجعلتهم فلولاً يضربون في الأرض على غير وجه. فإذا كان الإسلاميون ما زالوا على هذه الشوكة في الدولة، فلا بد من أن ثمة عواراً استثنائياً متستراً عليه في الثورة الدولة.
وهذا العوار هو ما احتاجت “قوى الحرية والتغيير” إليه لإعادة اختراع “الكيزان” كالعدو رقم واحد للسودان لا يزال. وسيخرج هذا العوار أثقاله بجرد لأدائها في الميادين التي أرادت اقتلاع “الكيزان” بالدولة منها وعادت بخفي حنين كما لا يخفى.
اتفاق جوبا
وعقد خلال الفترة الانتقالية اتفاق سلام جوبا (أكتوبر 2020) ولم يخرج عن نسخ الاتفاقات المكرورة التي سبق أن عقدتها حركات مسلحة مع نظم عسكرية حاكمة في الماضي. ففي بحث أولئك العسكريين بعد الثورة عن قاعدة سياسية يقوون بها مركزهم حيال “قوى الحرية والتغيير” (قحت) خرجوا باتفاق جوبا الذي هو صفقة سياسية، وليس اتفاقاً، تم من وراء ظهر الحكومة الانتقالية بقصد إزاحتها عن المشهد السياسي في ملابسات وتفاهمات وبإجراءات يطول شرحها. ولكن كشف عضو مجلس السيادة عن “قحت” صديق تاور في حديث أخير عن ملابسات عقد ذلك الحلف الذي احتكر للعسكريين في مجلس السيادة صلاحية التفاوض مع المسلحين، حتى من دون المجلس نفسه الذي له تلك الصلاحية بنص الوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية، فصار الاتفاق بديلاً للوثيقة الدستورية (أغسطس 2019) نفسها، فمتى جاء فيه ما لا يتوافق مع الوثيقة صح هو وبطلت الدستورية.
من جهة ثانية، أنشأ الاتفاق “مجلس شركاء الفترة الانتقالية” غلب فيه العسكريون وحلفاؤهم في الحركات المسلحة وقلدوه بصلاحيات من شأنها “تخريد” مجلس الوزراء في مثل حق الإشراف على الفترة الانتقالية نفسها بما فيها تمثيل السودان في المؤتمرات الدولية. ومن وجه ثالث أرجأ الاتفاق تكوين المجلس التشريعي لحين حلول السلام مما جرد الحكومة الانتقالية من مجلس مدني تشريعي يعززها كما قضت الوثيقة الدستورية. وقال الصحافي جين بابتسي قالوين، الذي عدد وجوه استحالة تطبيق الاتفاق، إنه “متى ما راق لكثر، راق كخبر طيب بأي ثمن”.
اتفاق الشرق
ومن رحم اتفاق جوبا خرجت علينا أزمة في شرق السودان، وكان تفاقمها منذ سبتمبر إلى منتصف أكتوبر عام 2021 القشة التي قصمت ظهر الحكومة الانتقالية بالانقلاب العسكري في الـ25 من أكتوبر. ومنعاً للتطويل فقد احتجت جماعات مؤثرة في شرق السودان، هي “نظارات البجا والعموديات المستقلة”، على ما عُرف بـ”مسار الشرق” في اتفاق جوبا، فهو، في قولها، عقد من وراء ظهرها مع جماعات في شرق السودان لمجرد مصادفة أنها كانت حليفة لحركات دارفور المسلحة واستصحبتها بتلك الصفة إلى مائدة مفاوضات مؤتمر جوبا. وكان إعلان ذلك المسار في مدينة بورتسودان في نوفمبر عام 2019 ضربة البداية في تلك الأزمة التحم فيها شيعة المسار ضد المحتجين. وما كَلّ “مجلس النظارات” في تعبئة جمهوره للضغط على الحكومة لإلغاء المسار. ولم تجرؤ الحكومة على الإلغاء لأن حركات دارفور المسلحة تمنعت دون ذلك. وتعاظم الضغط على الحكومة من المجلس بـ”تتريس” أنصاره لشارع الخرطوم – بورتسودان الذي هو الشريان الناقل لكل وارد للسودان وصادر. ومن فوق موقع القوة ذلك تجاوز مطلب “النظارات” مجرد إلغاء مسار الشرق إلى إزالة الحكومة الانتقالية نفسها، فطلب زعيمه محمد الأمين ترك من القوات المسلحة أن تتدخل وتوقف عبث “قحت” التي وصفها بأنها جماعات صغيرة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. وكان ذلك منه “موسيقى في أسماع” العسكريين، كما تقول الفرنجة، فانقلبوا على الحكومة في الـ25 من أكتوبر وشريان حياة السودان بيد المعتصمين.
لجنة التمكين
كانت لجنة إزالة تمكين نظام الـ30 من يونيو (حكومة الإنقاذ 1989-2019) التي نشأت بعد الثورة بموجب الوثيقة الدستورية الانتقالية (أغسطس 2019) الحاكمة للفترة الانتقالية في عين عاصفة القوى المضادة للثورة. فسلقت أداءها في الكشف عن فساد “الفلول” ونزع موجودهم منهم بحمم من النقد. وكانت واسطة حججها أنه لا مصادرة بغير إجراءات أمام القضاء. وكان القضاء بالفعل هو خاتمة المطاف في إجراءات اللجنة، فتبدأ بالتحري والتحقق والقرار، ثم الاستئناف للجنة خصصت للغرض لمن اعترض على قرارها، فإذا اعترض على حكم الاستئناف نفسه رفع الأمر إلى القضاء. ولم تنجح اللجنة في استكمال نفسها لا بالاستئناف، أو بالقضاء تبعاً لذلك، في ملابسات صراعات “قحت” وإضراب العسكريين عن أداء أدوارهم القيادية فيها. وبلغت قوة عارضة خصوم اللجنة حداً دفع دوائر مؤثرة من “قحت” نفسها إلى اعتزالها من فرط سوء السمعة. وهكذا نجح هؤلاء الخصوم في تسوئة سمعة اللجنة حتى انشغلت، وهي التي جاءت لإزالة الفساد، بدفع العاهة نفسها عنها.
وخرج الحزب الشيوعي الذي كان انفصل عن “قحت”، عدواً لدوداً للجنة، فلم يكتفِ بسحب كادراته من لجانها وحسب، بل قررت دورة لجنته المركزية لنوفمبر عام 2020 بوجوب قيام مفوضية فاعلة في محاربة الفساد في “لؤم مؤسسي” تجاه لجنة إزالة التمكين أثناء أداء واجبها. وفات على الحزب أن الوثيقة الدستورية سبق أن قضت بتكوين لجنة لتفكيك “نظام الإنقاذ” في الوقت نفسه الذي دعت فيه إلى قيام مفوضية لمحاربة الفساد تختص بفساد المرحلة الانتقالية وما بعدها. واستجاب لدعوة الحزب الشيوعي نحو 150 رمزاً من الصفوة اليسارية ومؤسساتهم ودعوا خلال بيان لهم في الـ16 من سبتمبر عام 2021 إلى تكوين تلك اللجنة لمحاربة الفساد بصمت مريب عن أي نقد للجنة التفكيك أو حتى مجرد ذكر لها. ولؤم الثوريين شديد.
العدالة والقانون
وكان أخمل ميادين الانتقالية هو ميدان القانون والعدالة، فعُقدت محاكمة رموز انقلاب 1989 منذ يونيو عام 2020 ولم تفرغ إلى حكم لهم أو عليهم، حتى قيام الحرب في الـ14 من أبريل 2023، مما اضطر سلطات السجن إلى إخلاء سبيلهم قبيل انحلالها جراء الحرب. واعتزلت الصفوة القانونية لـ”قحت” المحكمة طوال عقدها بينما أثارت قضايا في فقه القانون استحقت التفاتة قوية منهم. واستفردت هيئة الدفاع بها وحولتها إلى محاكمة سياسية للثورة. وبلغ من قوة عارضة الهيئة أن اضطر القاضي المنتدب الأول للنظر في القضية إلى إعفاء نفسه بعذر المرض. وبلغ إهمال “قحت” بالمحاكمة حداً أصبحت به مجرد “عرض جانبي” في قول كاتب.
ومن جانب آخر، كان اعتزال “قحت” وصفوتها القانونية لسير لجنة التحقيق في مذبحة فض الاعتصام، الذي عقد حول القيادة منذ السادس من أبريل 2019 بواسطة المجلس العسكري في الثالث من يونيو من العام نفسه، مشهوداً. فشكى رئيس لجنة التحقيق نبيل أديب على الملأ من دولة قابضة لم تستثمر في التحقيق بما يعجل به على رغم حرج المسألة. فلم تفرغ حتى أعضاء لجنته ليخدموا بدوام كامل لا تطوعاً، ناهيك عن توفير موازنة لتعيين خبراء للأدلة للتحقق من الفيديوهات التي بيدهم. وهو ما أراد منه أديب نقل الفيديوهات من حالها الخام إلى أدلة يعتد بها الاتهام ويلحن بها أمام القضاء. وشقي أديب أيما شقاء من ذلك الإهمال الذي عطل التحقيق، فلم يكتمل حتى وقوع انقلاب الـ25 من أكتوبر 2021 الذي أغلق مكاتب اللجنة بالضبة والمفتاح. وظن الناس الظنون بنبيل أديب وهم يرون توثيق الفيديوهات المسرف للمذبحة في حين كان يعرف أنها، إن لم يحررها خبير أدلة لتكون حجة على المتهمين، لن تصمد أمام هيئة دفاع ماكرة.
من جهة أخرى، لم تسبغ الحكومة الانتقالية عنايتها بـ”شهداء الثورة” وأسرهم كما كان الواجب، بل حلت “منظمة الشهيد” التي وجدتها في “دولة الإنقاذ” لتكريم ضحاياها في ميادين جهادها، وكان بالوسع توظيف مواردها للوفاء المؤسسي بحق “شهداء الحراك الثوري” على الحكومة الانتقالية.
المناهج
وكانت خطة تغيير مناهج التعليم هي ثغرة “الدفرسوار” التي نفذت منها القوى المضادة للثورة لتحرز نصرها الباكر على الحكومة الانتقالية، فنجحت في إبعاد مدير المناهج بوزارة التربية الدكتور عمر القراي من منصبه بعد أن فتحت نيرانها على شخصه ونتاجه من الكتب المدرسية. فاستحقاق الدكتور عمر القراي للوظيفة العامة مما لا مطعن فيه إلا في حقل المناهج. فهو ينتمي للحركة الجمهورية التي أسسها الأستاذ محمود محمد طه في الأربعينيات وجاءت بفهم حداثي للإسلام لقي مقاومة لم تهدأ من القوى المحافظة ومؤسسة الدولة الدينية، فحكمت عليه بالردة مرتين عام 1968 وعام 1985، وبالحكم الأخير أُعدم.
ولا يعرف المرء من احتقنت القوى المحافظة عليهم مثل الجمهوريين. فحتى الشيوعيين يقصرون دون مبلغ الجمهوريين من هذا الغبن المشيخي. ولربما هان الغبن شئياً لو نجح الجمهوريون في استرداد الرواية عن أنفسهم نقضاً لتلك التي ذاعت على لسان خصومهم. ولم يفعلوا إلا قليلاً بخاصة بعد غياب أستاذهم. فما تولى القراي إدارة المناهج حتى أعاد خصوم التغيير، وغير خصومه حتى، إنتاج الرواية السلبية عن الجمهوريين، بخاصة حين استكثر القراي، في سياق أفكار أذاعها عن تغيير المناهج، على التلاميذ حفظ سور القرآن التي رأى إسراف “دولة الإنقاذ” منها في منهجها. كان القراي الرجل الصحيح في الموضع الخطأ.
ستحتفل “قحت”، إذا ما كانت لا تزال متحرفة ترفة للنضال ضد “الفلول”، بثورة إما أنها حدثت ولم تصِب هدفاً، أو أنها لم تحدث. فـ”قحت” بمثل هذا النضال لا تزال على ضفة المعارضة لـ”دولة الإنقاذ” بينما تغيرت الأشياء من حولها كثيراً. فهي تعد مثلاً حتى “قوات الدعم السريع” التي ربما هي بصدد الاستيلاء على حكم السودان، مما خرج من رحم الإسلاميين الذين يلقون منه في يومنا جزاء “ما فعلوه بالأمس يحصدونه اليوم ويدفع ثمنه شعبنا”، في قول ياسر عرمان القيادي بتحالف “صمود”. وبدا من تفرغ أهل “قحت” الكامل في نقد “الفلول” مثل أنهم لا يزالون في دولة قضوا عليها. وبدوا مثل المصاب بـ”وعثاء السفر” (الجت لاق)، وهي ذلك الاضطراب الذي يصيب من قطع بالطائرة مناطق زمنية كثيرة في حين لا تزال ساعة جسده الداخلية تعمل بتوقيت الزمان والمكان الذي ارتحل عنه واحتاجت إلى بعض الوقت للتأقلم مع ظرفها الجديد. فتغير السودان كثيراً من حولهم تغييراً كانوا حداته، ولكنهم لا يزالون ملاحقين بإيقاع وعادات الزمان والمكان، “الإنقاذ”، الذي تركوه من ورائهم.
لا يعرف المرء أن مرت ذكرى ثورة 19 ديسمبر 2018 على قوى الحرية والتغيير، التي كانت في قيادة الثورة والدولة التي تمخضت عنها، احتفالاً بها أم تأبيناً لها كأن لم تكن. فيكفي إنه في يوم المسلمين هذا تتنادى جماعات من هذه القوى بما أطلقت عليه “إعلان المبادئ لبناء وطن جديد” في أثر الرباعية لاستبعاد الإسلاميين من العملية السياسية بعد إنهاء الحرب، وإعلانها جماعة إرهابية. ولو اقتصر الإعلان على مفاسد الإسلاميين في دولتهم ما بين 1989 و2019 لإعلانهم جماعة إرهابية لجاز الأمر. إلا أن الإعلان شكا من شوكة جماعة الإسلاميين في يومنا هذا بمطالبته ب”إخراج عناصرها من القطاع الأمني وتصفية تمكينها في أجهزة الدولة والاقتصاد”. والسؤال الذي لا مهرب منه هنا: وفيم كانت ثورة ديسمبر المجيدة؟ فمبلغ علمنا أنها أطاحت بنظام الإسلاميين، الإنقاذ، وجعلتهم فلولاً يضربون في الأرض على غير وجه. فإذا كان الإسلاميون ما زالوا على هذه الشوكة في الدولة فلابد أن ثمة عواراً استثنائياً متستراً عليه في الثورة الدولة.
وهذا العوار هو ما احتاجت قوى الحرية والتغيير إليه لإعادة اختراع “الكيزان” كالعدو رقم واحد للسودان ما يزال. وسيخرج هذا العوار أثقاله بجرد لأدائها في الميادين التي أرادت اقتلاع “الكيزان” بالدولة منها وعادت بخفي حنين كما لا يخفى.



