رأي

هجرة رأس المال السوداني وتأثيرها على الجهاز المصرفي

مهند عوض محمود

منذ عام 2019، بدأت رؤوس الأموال السودانية تُغادر البلاد بوتيرة متصاعدة، متجهة إلى دول مثل الإمارات، مصر، تركيا، قطر، سلطنة عُمان، والسعودية.

كانت البداية هادئة، أشبه بمحاولات وقائية للهروب من الانهيار المالي، إلا أن اندلاع الحرب حول هذه الهجرة إلى موجة عاتية غيّرت المشهد الاقتصادي السوداني بأكمله.

تحول عدد كبير من الشركات ورجال الأعمال إلى إدارة أعمالهم من الخارج بالكامل؛ ولم يعد رأس المال يُدار من الداخل سوى في حدود ما يغطي بعض المصروفات. أما النشاط الفعلي، فقد نُقل إلى بيئات اقتصادية أكثر استقراراً، مما انعكس مباشرة على تراجع دور الجهاز المصرفي السوداني وتآكل مكانته، مع فقدان الثقة وخروج تدريجي لرأس المال من الدورة الاقتصادية الوطنية.

في الإمارات، بدأت هذه التحولات مبكراً منذ 2019، حيث لجأت شركات سودانية إلى تحويل أرصدتها إلى مصارف الإمارات ، تحوّطاً من تدهور الجنيه السوداني ؛ وبعد اندلاع الحرب، أصبحت نسبة كبيرة من هذه الشركات تزاول نشاطها بشكل كامل من داخل الإمارات، مستفيدة من بيئة مصرفية مرنة وسهلة، حيث التمويل متاح حتى 48 شهراً دون الحاجة إلى ضمانات عقارية، وبأرباح لا تتجاوز 19% سنوياً، اعتماداً فقط على سجل الشركة وسمعتها.

وعلى النقيض، تعاني البنوك السودانية من ضعف في السيولة، ومحدودية في حجم التمويل، حيث لا تتجاوز مدد التمويل 6 أشهر، وبأرباح تصل إلى 25% في نصف العام، أي ما يعادل 50% سنوياً ؛ ويقف سقف التمويل عند 600 مليون جنيه سوداني (حوالي 218,000 دولار)، وهو مبلغ بالكاد يناسب الشركات الصغيرة.

مصر بدورها أصبحت وجهة رئيسية لرؤوس الأموال السودانية. فقد وفرت بيئة أكثر جاذبية من حيث استقرار العملة، انخفاض تكلفة التشغيل، وتعدد الموانئ ، وتوفر العمالة الرخيصة، وقد ارتفع عدد الشركات السودانية المسجلة في مصر من حوالي 250 قبل الحرب إلى أكثر من 3,500 شركة اليوم. ونشطت هذه الشركات في التصدير والتصنيع، مثل تصدير البرسيم إلى الخليج، والبرتقال إلى أوروبا، بالإضافة إلى تأسيس مصانع لإنتاج الحلاوة والطحينة وزيت السمسم. كما أن العديد من العلامات التجارية السودانية باتت تُصنّع في مصر بعقود مصانعة وتُصدّر إلى أمريكا وكندا وبريطانيا، بل وحتى إلى السودان نفسه، وبتكلفة إنتاج أقل بكثير مما كانت عليه محلياً.

ولم تقتصر الجاذبية على البنية الاقتصادية، بل شملت أيضاً السياسات التمويلية. فقد أطلقت الحكومة المصرية مبادرة “الخمسة بالمئة” التي تُلزم البنوك بتمويل المشاريع الصناعية بفوائد لا تتجاوز 5%، وهو ما لا توفره البنوك السودانية حالياً، خصوصاً للشركات الناشئة.

أما سوق العقار المصري، فقد تحوّل إلى خزان ضخم لرأس المال السوداني الهارب ؛ فقد استثمر السودانيون في مشاريع كبرى مثل الرحاب، مدينتي، مفيدا، الشيخ زايد، وأكتوبر، ما أدى إلى خروج جزء معتبر من الأموال من الدورة المصرفية المحلية نحو عقارات في الخارج يصعب استردادها مستقبلاً.

في تركيا، اجتذبت الجنسية العقارية عدداً كبيراً من رجال الأعمال السودانيين الذين نقلوا نشاطهم إلى إسطنبول وأنقرة ومرسين ومدن أخرى، حيث أسسوا شركات ومتاجر واستفادوا من الحوافز التركية في التمويل والتجارة. وقد ساعدتهم الحرب، رغم قسوتها، في اكتساب مهارات جديدة وشبكات علاقات دولية فتحت لهم أسواقاً بديلة، خصوصاً في الصين، باكستان، البرازيل، نيجيريا، غينيا، جيبوتي، والخليج.

الكركدي السوداني، على سبيل المثال، الذي كان يُصدّر من ميناء بورتسودان، بات يُشحَن الآن من نيجيريا إلى أوروبا . والسمسم السوداني، رغم جودته العالية، أصبح أغلى من نظيره البرازيلي أو الباكستاني بسبب الرسوم المحلية المفروضة في مناطق مثل القضارف. وقد أسس السودانيون كذلك شركات في أوغندا ورواندا وتنزانيا وموريتانيا، في مجالات التصنيع، التصدير، وحتى التعدين، الذي يُعتبر من أكثر القطاعات جذباً اليوم.

تضررت الصادرات الزراعية كذلك بفعل الحرب، لا سيما بعد إغلاق الطرق من دارفور وكردفان إلى الولاية الشمالية. أدى ذلك إلى اختفاء محاصيل أساسية مثل حب البطيخ والفول السوداني والصمغ العربي، ما دفع المصدرين السودانيين للجوء إلى أسواق بديلة مثل السنغال وغينيا كوناكري حيث يصدر الفول السوداني من السنغال إلى الصين ، ويصدر زيت الفول السوداني منها إلى أوروبا ، وهو ما تسبب في تراجع صادرات السودان من هذه المنتجات بنسبة تجاوزت 80% مقارنة بموسم 2024.

ورغم ما يُشاع عن أن السودان بلد الفرص والأرباح العالية، إلا أن التجربة الواقعية أظهرت أن هذه الأرباح مشروطة بظروف محفوفة بالمخاطر، من تضخم جامح، وغياب استقرار تشريعي، وضعف ثقة المستثمر. في المقابل، توفر بيئات مثل مصر وتركيا مستوى أعلى من الأمان القانوني والربحية المستقرة، وهو ما يفسر ارتفاع عدد المليونيرات، وامتلاك رجال أعمال لطائرات خاصة، حيث تحتل مصر المركز الثاني أفريقياً بعد نيجيريا في هذا المؤشر.

اتجهت شريحة أخرى من رجال الأعمال السودانيين إلى أوروبا وأمريكا، حيث فوائد التمويل البنكي لا تتجاوز 5% سنوياً، والبنية المؤسسية محكومة بقوانين شفافة، مما سهّل تأسيس شركات وتحويل رؤوس أموال إضافية من السودان إلى هناك.

ولا يمكن إغفال البُعد الاجتماعي في هذا النزوح؛ فالكثير من رجال الأعمال أدخلوا أبناءهم مدارس وجامعات دولية راقية، بمناهج حديثة وبيئة تعليمية مستقرة، وحصلوا على خدمات صحية راقية لا تتوفر في السودان. كما اعتادوا على نمط حياة يتضمن خدمات متكاملة، من كهرباء مستقرة إلى طرق حديثة إلى مواصلات منتظمة، مما يجعل قرار عودتهم إلى السودان محفوفاً بالمخاطر، ليس اقتصادياً فقط، بل اجتماعياً ونفسياً أيضاً.

ورغم أن البعض ما زال يترقب استقرار الخرطوم وعودة أسعار العقارات لمستويات ما قبل الحرب تمهيداً للبيع وتحويل القيمة إلى الخارج، إلا أن هذا التوجه، إن تم على نطاق واسع، سيؤدي إلى انكماش إضافي في القطاع العقاري المحلي.

خروج هذه الأموال بهذا الشكل يُعرف اقتصادياً بـ “تسرب رأس المال من الدورة الاقتصادية” (Capital Leakage)، وهو ما يؤدي إلى ضعف السيولة في المصارف، تراجع الائتمان، تقلص قاعدة العملاء، وربما فقدان البنوك لمراكزها التنافسية.

البنوك السودانية اليوم تقف على مفترق طرق. فإما أن تعيد تقديم نفسها من جديد، عبر تحسين الخدمات، وتطوير أدوات التمويل، والتحول الرقمي، والدخول في شراكات إقليمية، وإما أن تستمر في فقدان ثقة رجال الأعمال والسوق إلى أجل غير مسمى.

وفي ظل غياب معالجات جذرية وسريعة، ستبقى المؤسسات المالية في السودان تدفع فاتورة هجرة رأس المال، في بلد باتت فيه الأموال تبحث عن استقرار خارج الحدود، وأمان مفقود داخلها.

نقلا عن “المحقق”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى