رأي

نهج جديد أكثر فعالية لحماية المدنيين في السودان

أمجد فريد الطيب

في عام ونصف من الحرب، أسفر الصراع المستمر بين القوات المسلحة السودانية وميليشيا قوات الدعم السريع عن خسائر إنسانية هائلة: أكثر من 150,000 ضحية مدنية، وأكثر من 12.7 مليون نازح (من بينهم 2.8 مليون لجأوا إلى خارج البلاد)، وأكثر من 25 مليون شخص يواجهون مستويات حادة من انعدام الأمن الغذائي.

تبدو جهود التفاوض الأخيرة وكأنها تكرار لمصير إعلان جدة لحماية المدنيين لعام 2023: وفرة في الكلمات، مع انعدام كامل لترجمتها على ارض الواقع. شاركت قوات الدعم السريع في المحادثات التي استمرت عشرة أيام بوساطة أمريكية في سويسرا في أغسطس الماضي، ولكن خلال هذه العشرة ايام أسفرت هجماتها عن مقتل 650 مدنيًا، وقصفت ثلاثة مستشفيات رئيسية ومستودع إمدادات إنسانية رئيسي بالقرب من مخيم زمزم للنازحين في شمال دارفور، ودمرت سيارة الإسعاف الوحيدة التي تخدم أكثر من 500,000 نازح. لم يتجاهل الوسطاء في سويسرا كل هذا فحسب، بل أشاد المبعوث الأمريكي الخاص إلى السودان، خلال اجتماع في القاهرة مع الشباب السوداني، بقوات الدعم السريع لالتزامها بقواعد الاشتباك خلال المحادثات!

في الوقت نفسه، انسحبت القوات المسلحة السودانية من المحادثات، مطالبة الضامنين الأجانب والوسطاء بالضغط على قوات الدعم السريع للوفاء بالالتزامات المسبقة، مثل إخلاء المباني المدنية ومنازل المواطنين – حتى في الوقت الذي تفشل فيه في فرض التزامات مماثلة على نفسها. كما ادى السلوك المتجذر الموروث لوكالات الأمن، إلى جانب التوترات الامنية المتزايدة بسبب الحرب، إلى العديد من الانتهاكات ضد المدنيين مع رقابة معدومة ومساءلة ضئيلة.
و بينما تتجادل الأطراف حول الالتزامات اللفظية التي لا يتم الوفاء بها في نهاية المطاف، يتم تهميش حماية المدنيين تماما. وفي هذا المنعطف الحرج، ينبغي أن يكون ضمان سلامة المدنيين أولوية قصوى للمجتمع الدولي. وفي حين أن الاتحاد الأوروبي كان المانح الإنساني الرئيسي للسودان منذ اندلاع الحرب، فقد حافظ على موقف محايد إلى حد كبير حتى الان. ولكن تزايد معدلات الخطر على المدنيين يودي ذءكل مباشر الي ارتفاع مستويات النزوح وهو ما يهدد اوروبا بتفاقم تحديات الهجرة المنظمة وغير المنظمة اليها. وهو ما قد يبرر لدول الاتحاد الاوروبي فإن اتباع نهج أكثر استباقية بشأن حماية المدنيين في السودان.

تضع المفاوضات الحالية وقف إطلاق النار كشرط للتدخل لحماية المدنيين في السودان. هذا ليس وتخليط خاطئ. في حين أن وقف إطلاق النار هو امر مهم، ولكن ينبغي النظر إليه كأداة وليس شرطا لحماية المدنيين المعرضين للخطر.

خلص تقرير صدر مؤخرا عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بشكل لا لبس فيه إلى أن المدنيين السودانيين يواجهون باستمرار تهديدات غير عادية، مثل العنف الجنسي الواسع النطاق والاعتقالات التعسفية والتعذيب والاستهداف العرقي. في حين يشير التقرير إلى انتهاكات القانون الدولي من كلا الجانبين، فإن غالبية الانتهاكات الموثقة منسوبة الي مليشيا قوات الدعم السريع. ودعا مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إلى تشكيل قوة مستقلة لحماية المدنيين وضمان الوصول الآمن إلى المساعدات الإنسانية. ومع ذلك، وبالنظر إلى المناخ الدولي الحالي، ولا سيما مع شلل مجلس الأمن، فإن نشر بعثات لحفظ السلام أو صنع السلام بقوات في الميدان سيشكل تحديا من العسير حله.

إبتدار مثل هذه البعثات يثير مناقشات معقدة وتستغرق وقتا طويلا حول شئون مثل السيادة وضرورة موافقة سلطات الأمر الواقع والحساسيات الثقافية. إلى جانب ذلك، فإن انعدام الثقة بين الحكومة السودانية ومنظومة الأمم المتحدة، لا سيما بعد إنهاء مهمة يونيتامس يمكن أن يؤخر نشر مثل هذه البعثات حتى اذا تم التوافق على اتخاذ قرار انشاءها. كما أن بعثة حفظ السلام التي يمكن أن تغطي بشكل فعال منطقة الصراع الشاسعة في السودان ستكون مكلفة للغاية، مما سيستهلك الموارد الشحيحة بعيدا عن الاحتياجات الإنسانية الأكثر إلحاحا للمدنيين. وأخيرا، فإن سجل مثل هذه البعثات في حماية المدنيين أمر مشكوك فيه، لا سيما في الصراعات المعقدة ذات الانقسامات الاجتماعية العميقة الجذور مثل التي هي في السودان حاليا.

إن المناقشة الدائرة حول قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2736، الذي يدعو الأمين العام للأمم المتحدة إلى اقتراح تدابير إضافية لحماية المدنيين في السودان، هي فرصة ثمينة للتفكر والضغط من اجراءات عملية وقابلة للتطبيق لحماية المدنيين في السودان. والتي يمكن ان تشمل:

إعادة تعريف الحماية: تتطلب حماية المدنيين تعريفا أوسع يتجاوز مجرد السلامة من الهجمات العسكرية بل يشمل توفير الخدمات الأساسية، مثل الرعاية الصحية والمياه والتعليم والاتصالات وايرها. يساعد هذا التعريف الموسع في التخفيف من الآثار الكارثية للحرب ويشجع على القبول السياسي من حكومة السودان، التي تتحمل المسؤولية الرئيسية عن حماية المدنيين.

الحماية في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة:
آليات الرصد: يجب على منظمات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان السودانية والدولية، إلى جانب الوكالات الحكومية السودانية، إنشاء آلية مشتركة للمراقبة وللإبلاغ عن الانتهاكات والتحقق منها وحلها في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة. لقد كانت هناك العديد من التقارير عن احتجاز المدنيين وتعذيبهم وإعدامهم خارج نطاق القضاء من قبل كيانات رسمية. يمكن أن يضمن الإبلاغ في الوقت المناسب معالجات سريعة، أو على الأقل، ضمان اتخاذ الإجراءات القانونية الواجبة لكل حالة. يمكن أن تساعد عمليات المراجعة والتدقيق والإبلاغ العام والإنفاذ الشفاف للعقوبات في ردع الانتهاكات المستقبلية.
الحماية في مناطق القتال النشطة:
ترسيم مناطق خضراء امنة: يحتاج المدنيون في السودان بشكل عاجل إلى مناطق خضراء محددة تكون بمثابة ملاذات آمنة من الهجمات العسكرية، حيث يمكنهم الحفاظ على سبل العيش العادية والوصول إلى الخدمات الأساسية. ينبغي أن تساهم هذه المناطق أيضا في الحفاظ على الاقتصاد في البلاد من خلال قدرتها تلى تعزيز النشاط الزراعي والاقتصادي. ينبغي ترسيم المناطق الخضراء بناء على المعايير التي يحددها شركاء التنمية والمنظمات الإنسانية، وليس من قبل الجانبين المتحاربين. ينبغي أن تأخذ المعايير في الاعتبار القدرة السكنية على الايواء والبنية التحتية لتقديم الخدمات الاجتماعية والفوائد الاقتصادية المحتملة. وعلاوة على ذلك، ينبغي أن تكون في موقع استراتيجي لتسهيل ايصال المعونة الانسانية من الخارج. على سبيل المثال، يمكن أن تشمل المنطقة الخضراء التي يبلغ قطرها خمسة كيلومترات حول مطار الابيض، المطار والسوق وقدر معتبر من المناطق السكنية. ويحتاج إنشاء هذه المناطق إلى تخطيط وتنسيق دقيقين، يشملان المجتمعات المحلية والجهات الفاعلة في المجال الإنساني والشركاء الدوليين.
آلية المراقبة المشتركة مع “عيون في السماء”: تكوين آلية مراقبة مشتركة تشمل كل من الأطراف المتحاربة وطرف ثالث محايد وهي ضرورية لحماية المناطق الخضراء. ويمكن للرصد بالاقمار الصناعية أن يوفر إخطارات في الوقت المناسبة إلى الية الرصد والمراقبة المشتركة، بشكل يتيح المراقبة المستمرة للتهديدات المحتملة. ويجب على الالية المشتركة أن تجتمع استجابة للتهديدات المحتملة ومطالبة الطرف المسؤول بسحب قواتها أو، كملاذ أخير، ان تقوم بالسماح بعمل عسكري دفاعي لحماية المدنيين داخل المنطقة الخضراء. يمكن أن تكون العيون في السماء أكثر فعالية من الأحذية على الأرض كخطوة أولية لحماية المدنيين في السودان. يوفر رصد الأقمار الصناعية العديد من المزايا، بما في ذلك القدرة على تغطية مساحات شاسعة، والعمل بشكل مستمر، وتقديم بيانات موضوعية يمكن استخدامها للتحقق من الامتثال للاتفاقات.
بعثة دعم مدنية دولية وإقليمية: ينبغي انشاء بعثة دعم مدنية دولية تقدم دعما تقنيا شاملا في المناطق الخضراء، وتعمل على ضمان تقديم الخدمات والحفاظ على القانون والنظام. يجب أن تدعم البعثة تقديم خدمات مثل الرعاية الصحية والتعليم والاتصالات. وان تشمل ايضا عنصرا للشرطة لضمان إنفاذ القانون داخل المناطق الخضراء. وينبغي أن تتألف قوة الشرطة هذه من موظفين مدربين يعملون بالتنسيق مع مجموعات إنفاذ القانون المحلية والشرطة المجتمعية. يمكن أن تكون مهمة هذه البعثة حيوية في الحفاظ على جهاز الدولة السوداني، وضمان تقديم الخدمات والمرافق الأساسية للمدنيين، ومنع المزيد من التفكك، وتعزيز قدرة مؤسسات الدولة على الصمود في النزاعات.

يتطلب الوضع الراهن في السودان اتخاذ إجراءات فورية. يجب أن يبدأ التدخل على وجه السرعة وان يتم تعزيزه بشكل متصاعد تدريجيا. إن شلل مجلس الأمن ليس عذرا للتقاعس عن التدخل لحماية المدنيين في السودان حيث انها ضرورة حيوية لملايين الشعب السوداني وكذلك التزام أخلاقي وقانوني أساسي للمجتمع الدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى